الجمعة 2022/08/19

آخر تحديث: 22:08 (بيروت)

العم "يوسف إدريس": لقاء بعد أربعين سنة

الجمعة 2022/08/19
العم "يوسف إدريس": لقاء بعد أربعين سنة
بارع في القصة القصيرة، وبارع في الوقت ذاته في الرواية القصيرة
increase حجم الخط decrease
أنت تعود إلى مكان مألوف، أو حيّز غادرته قبل عقود، وكنت رأيت مدنا وبلدانا وقارات، وقرأت كتباً في حقول مختلفة، وشاهدت أفلاماً وسمعت موسيقى صاخبة وهادئة، وفي نهاية الرحلة عدت إلى ذلك المكان الحيز الذي ظل ثابتاً طوال تلك السنين. والنصوص، كما نعرف، تصل كمالها ما أن تخرج من المطبعة. ذلك المكان الهلامي، الحيز ذي السمات والبصمات، هو قصص وروايات الكاتب المصري يوسف إدريس

أربعة عقود بالضبط منذ أن حدث اللقاء بيننا. تغيرت أنا كثيراً بعد آخر قراءة لي لعوالم يوسف إدريس. فماذا وجدت في ذلك الحيز الشاسع من القصص والروايات بعد أربعين سنة من البعاد؟ أو اللقاء؟ هناك بلا شك تيار من القراء والنقاد يصر دائماً على الاستهانة بالمنجز السردي العربي، ولنقل وضعه دائماً بموضع المقارنة والدونية مع المنجز العالمي. وهي ظاهرة فاشية لدى عدد لا يستهان به من الهواة، والمتخصصين الواقعين تحت سلطة النص المترجم، الغرائبي بأحداثه، أو الذي ينقل بيئة مغايرة للبيئة العربية مما يجعله جديداً على ذائقتنا المحلية. عادة ما تضع تلك الرؤية المتعالية النص السردي العربي بمواجهة موجات متلاحقة من الكتابة الوافدة: موجة ماركيز، موجة كارلوس زافون، ديستويفسكي، تشيخوف، كونديرا، موجة بورخيس وساباتو الأرجنتينيين، غيوم ميسو الفرنسي، ساراماغو البرتغالي، إضافة إلى أمواج مترادفة تصلنا كل سنة عبر الترجمات التي أصبحت هي الممول الأهم لدور النشر العربية وهي تسطو، من دون حقوق، على تلك المؤلفات. وبعضها يُطبع من دون مراجعة لغوية أو تحقق من مصداقية الترجمة، ومن دون الاهتمام بوجود ترجمات سابقة. وحين يتحول القارئ إلى مستهلك فقط يصل به هاجس "الاستهلاك" إلى النظر بنفور للمنتج المحلي، طبعاً ليس في حقل الأدب وحده. في كل شيء تقريباً. 

ولقراءة الكاتب المصري يوسف إدريس، ينبغي على الفرد الابتعاد عن المقارنة مع نصوص أجنبية، أي تكريس الذهن للنص ذاته، شخوصه وأحداثه وبناء خريطة الأحداث وربط كل ذلك بميزة الابداع الأولى: تمثل النص لواقعه وتقديمه بصورة فنية مقنعة، وذات بعد معرفي يلقي ضوءاً ساطعاً على بنية ذلك المجتمع. هذا ما يوصل القارئ والمجتمع على حد سواء إلى نقطة الوعي للذات. معرفتها. والمعرفة قوة. مهنة الطب التي مارسها تركت بصمتها في فن السرد لديه. وجاءت القرية ميداناً أثيراً له، وأعتقد أن طفولته في تلك القرى وتنقلاته المكانية بينها لم تفارق مخيلته، حيث تشبع بهندسة بيوتها، ورائحة ترعها، وأضواء مغيب شمسها وشروقها. عرف ما يعيشه الفلاح المصري من يوميات، وكيف تقضي النساء لياليها أمام البيوت الطينية، ما هي البطولة وما هي الهزيمة، ما هو العيب وما هو الشرف، وهي ميزة كاتب صادق مع نصه ومجتمعه. يطل على ذلك المجتمع عبر عدّة معرفية يختلط فيها الفلسفي، والفكري، والنفسي. من هنا امتلك حرية شاسعة في التعامل مع الأحداث، تارة فلسفيا وتارة نفسيا، لكاتب عاش الحاضر كما هو، دون اسقاطات المثقفين العائشين في أبراج عاجية. 

النص الذكي كلمة تشير من بعيد إلى فكرة ما داخل الحدث، أو جملة ذات خلاصة مكثفة جدا تفتح ثغرة جديدة في الكتلة السردية. تفتح أفقاً جديداً في القصة أو الرواية. ليست هناك مجانية للكلمات أو الجمل، بل يظل الوعي الفني حاضراً متيقظاً. كاتب يستطيع تطويع الزمن لينسجم مع نمو الحدث في قصص لا تقل عالمية عن الكتاب المعروفين في هذا المجال. هي تسعى لمتعة الحكاية ورقصها، وحركتها، متضمنة تلك الرسالة الأخلاقية خلف الكلمات وعبر الحفر المعرفي في الذاكرة الشعبية. إنه يرصد النبض الانساني في واقع ديني، ومتخلف تاريخياً، وهي سمة البشر في كل زمان ومكان. ومن هنا اقترابها، قصصه ورواياته، من العالمية التي أدهشتنا في نصوص كتّاب بارزين ترجموا في المئة سنة الأخيرة إلى العربية. وقد استخدام يوسف إدريس اللهجة المحلية بأقل قدر ممكن، رغم أن شخصيات  قصصه ورواياته تستل من واقع مصري، وهي، بصورة ما، غير متعلمة، إلا أن إدريس امتلك الحنكة الابداعية في تقديمها إلى القارئ بأقل قدر من محلية اللهجة. ذلك أن معظم القصص والروايات القصيرة تعتمد على قدرة الراوي في الكشف عن هواجسها، ومعتقداتها، وميولها، وأحلامها. حكاياته تكشف روح الشعب المصري، ويمكن تعميمها على روح المجتمعات العربية والاسلامية: نحن إزاء مجتمعات محكومة بالظلال الدينية، والتقاليد الراسخة على مر قرون من العزلة، بعيدة عن بؤرة الحداثة في التنظيم والعلم والتميز الفردي. مجتمعات راسخة في الخرافة والأساطير والثقافة القطيعية، وهي سمات تكاد تتشابه في مجتمعاتنا العربية، والشرقية عموماً.

ومن المدرك، والبديهي، أن الكاتب العالمي هو الذي يضع أسئلة مثل: من أنا، ما هي قريتي، كيف تعيش مدينتي، ما هي أحلام قاطنيها، كيف يأكلون، وما هي كوابيسهم، ولم حدثت تلك الحكاية وأين، وكيف تبدو الأمكنة على الخارطة، وما هو نمط حوارات البشر في المدن والقرى، لم يقتلون ويسرقون ويكذبون ويخافون ويتألمون ويسافرون، وما إلى ذلك من تساؤلات تصل بالكاتب والقارئ إلى وعي الذات، ووعي المجتمع لذاته. من هنا تأتي خصوصية السرد. ومعظم تلك التساؤلات يجدها قارئ إدريس في سرده. هو يستل شخصياته من شرائح مختلفة ، فنقع على الطفل كبطل للقصة. ونقع على المرأة، والشيخ، والقاتل، والمراهق، والمجنون، والشرطي. كل ذلك عبر لغة مشغولة بدقة ابتعدت عن الحشو والانشاء الفاقع المتفشي في نصوص كثيرة لدينا. لغة قصصية طازجة تحمل الواقع بين مفرداتها وجملها، بعضها شاعري ينبني على شاعرية الطبيعة ذاتها، وعلى الواقع رغم رثاثته، أي اكتشاف جماليات المكان وحركة البشر في ثناياه. وتجربة يوسف إدريس واحدة من تجارب عربية سردية في أكثر من بلد عربي لا تقل فنية، ولذة قراءة، من تجارب عالمية وافدة، اكتسبت الشهرة والشعبية، إن كان ذلك في القصة أو الرواية. 

بارع في القصة القصيرة، وبارع في الوقت ذاته في الرواية القصيرة، وكلاهما يرتكز على حدث قد يأتي مثل ومضة أو يستغرق أياماً وأسابيع وشهوراً. يمتلك البراعة في ملء طيات الزمن بالأحداث والاستقراءات والتحليل، رجوعاً بالزمن إلى ماضي الشخصية، أو عبر تيار وعي لا يفارق الحاضر، حيث تتطوع اللغة بسلاسة لإيصال ملامح الذهنية الشعبية بشكل واضح. شعبيته لا تنال من فنية نصه. وسهولة تتبعه للحدث لا تخلّ بعمقه التحليلي، أو غوصه في كوامن الأشخاص وسرائرهم. نادرا ما يقع يوسف إدريس في الترميز، فقاموس الشعب المكون للقصص والروايات رموزه واضحة وأمثاله حاضرة، وجذوره الحضارية ممتدة عبر القرون في كل تفاصيل المجتمع المصري. وهذا ما يريده، ويسعى إليه الإبداع بحق.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها