الأربعاء 2022/08/17

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

أكاذيب سلمان رشدي التي تحرّرنا

الأربعاء 2022/08/17
أكاذيب سلمان رشدي التي تحرّرنا
سلمان رشدي في 1986، قبل ثلاث سنوات من فتوى إهدار دمه
increase حجم الخط decrease
صُدمت عندما علمت يوم الجمعة الماضي أن سلمان رشدي قد طُعن بسكين من قبل مجهول على خشبة المسرح أثناء محاضرة في نيويورك. لكنني كنت غاضبًا أيضًا.

في 14 فبراير/ شباط 1989، أعلن آية الله الخميني أن أي شخص سيقتل سلمان رشدي، الذي "أهان الإسلام والرسول والقرآن" بروايته "آيات شيطانية"، لن يحصل على مقعد في الجنة فحسب، وإنما أيضًا مكافأة رائعة قدرها 3 ملايين دولار. وأيضًا، من قَتَل واحدًا على الأقل من ناشري أو مترجمي كتبه بدلاً من رشدي نفسه، يمكنه الاعتماد على الأجر الإلهي ومكافأة المؤسسة التي تم إنشاؤها خصيصًا لهذا الغرض. اغتيل ناشر وقُتل مترجم ياباني.

كنت غاضباً لأنني لم أحسد الخميني على هذا الانتصار. في يونيو/حزيران 1989، توفّي الخميني عن عمر يناهز 86 عامًا، عجوزاً ساخطاً، بعدما ادعى أنه يريد تحويل إيران إلى دولة إسلامية واتبع بدلاً من ذلك ديكتاتورية الشاه بدكتاتورية الملالي. لكن كان عليّ أيضًا أن أضحك لأنني رأيت على الفور أمامي قبرًا وتابوتًا فُتح غطاءه وخرج منه رجل، ميت يمشي، بحثًا عن ضحيته، الذي اسمه سلمان رشدي. كان على الطريق مرات عديدة، وكان يفشل دائمًا، وكاد أن يصبح مزحة. والآن سيظفر به أخيراً!

كانت رؤيتي سخيفة. بدلاً من تحليل الحقائق الهزيلة، هربتْ مخيلتي معي، وحوَّلت الخميني إلى كونت دراكولا، الاختراع الأدبي لراوي القصص الأيرلندي برام ستوكر من العام 1897. عندما أدركت ذلك، لم أرتكز على القليل الذي أصبح معروفًا عن إصابات رشدي، إنما فكرت في حقيقة أنه كان هناك دائمًا أشخاص - رجالاً ونساء - قاموا بطعن المشاهير. لأنهم أرادوا أن تدركهم الشهرة. ولأنهم كانوا على يقين من أنهم بفعلهم هذا سيصبحون مشهورين ذات يوم.
اختلافات وتنويعات دوافع المهاجمين ظلّت تتبادر إلى الذهن: المؤلفون المرفوضة كتبهم من قبل الناشرين أو من قبل الجمهور، أولئك الذين أرادوا الانتحار ويحاولون الآن جرّ شخص آخر معهم، مجنون ضلّ طريقه إلى المسرح، حادث عَرَضي، شخص ساخط على الجلبة الدائرة حول سلمان رشدي.

*
كل هذا هراء. القاتل جاء من خلفية شيعية، كما نعلم الآن: هادي مطر، 24 عاماً، من أصول لبنانية ويعيش مع والدته في نيوجيرسي. الأطروحة الثأرية هي الأكثر احتمالاً. ومع ذلك، ليس للكلمات تابوت يخفيها ويبعدها ويدفنها، وبالتالي ستبقى "الرواية الرجيمة" حيّة. تماماً مثلما ستحيا فتوى الخميني. لهذا السبب بالذات، دعونا لا ننسى، دوَّن الإنسان أفكاره ويومياته وأحلامه. الخلود الذي تمنحه الكلمات المطبوعة والمحفوظة أبقى وأدوم من فترات مقطوعة من الزمن يحياها المرء ثم يموت ويُنسى.

ليست الأوديسة فحسب من نَجَتْ وخلّدت صاحبها، كذلك فعل "موبي ديك" و"يوسف وإخوته" و"الطبل الصفيح" و"أولاد حارتنا"، مثلما - أيضاً للمفارقة أو للأسف - "بروتوكولات حكماء صهيون" و"كفاح" هتلر وكتابات أخرى ملعونة يصل الهوس بها حدّ التقديس. هذا التقديس وإن كان إشكالياً فهو ليس "المشكلة" - بألم ولام التعريف - طالما أنه غير مرتبط شرطياً بجهلٍ يرعاه ويحلّ القتل لأجله.

الخميني، كأي مسلم متدين، لا يبسمل من دون أن يضيف "الرحمن الرحيم". هذا من شأنه أن يضع حداً - ولو بسيطاً - لتطرُّفه القاتل، مثلما فعلت رسالة المسيح الرحيم للصليبيين المسيحيين. لكن ربما هذا جانب حسن الظنّ أكثر من اللازم، حين يكون موضوعه رجلٌ لم يخجل، كأي ديكتاتور دموي، من التنكيل بمعارضيه وتسويد عيشتهم وعيشة أهلهم. إيران بالطبع نفت أي علاقة لها بالهجوم، وصرَّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية خلال مؤتمرٍ صحافي أنه "لا يحق لأحد أن يتّهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، مؤكداً أن "إيران لا تعتبر أن أحداً يستحق اللوم أو الإدانة غيره ومؤيديه". وسواء كان دافع طاعن رشدي فتوى الخميني ووصيته الملعونة، أو شيك سخي من مؤسسة ما، فلا شيء أمامنا الآن سوى انتظار ما ستكشف عنه التحقيقات.

*
ربما لا يوجد كاتب حيٌ لا يزال يفكّر ويكتب كثيرًا عن كيفية تعامل الناس والكُتّاب مع الأكاذيب مثلما فعل سلمان رشدي. إنها الوسيلة التي تساعدنا على الخروج من الواقع وتجاوزه. من دونها، سنسجن أنفسنا في عالم من زنازين البروتوكول والأقوال الجاهزة.

رواية القصص تعني السماح للخيال بالتحدث بدلاً من الحقيقة. ما ندعي أنه الحقيقة - كما في حالة المعتدي بالسكين على سلمان رشدي – غالبًا ليس إلا جزءاً صغيراً من حدثٍ أكبر بكثير نعرفه. قصص البشر الخالدة تجمع معاً ما لا ينجح في الواقع وما لم يجد طريقه إلى الآخر بعد (هكذا تعمل كل قصص الحبّ على الأقل)، أو تفعل العكس، بتفكيك وتمزيق ما لا يُمكن فصله في الواقع. ما من قصة مغامرات واحدة لا يترك فيها البطل والديه ويخرج إلى المجهول.

البعض تمكّنوا من حماية أنفسهم من الانهزام والذل والسقوط في آبار مظلمة بمثل هذه القصص. هذه القصص لم تحدث قطّ. هذه القصص كذبة. لكن قول ذلك ليس بالضرورة جزءًا منها. تظاهر دانيال ديفو بأنه روبنسون كروزو.

يتخذ رشدي من شهرزاد قدوة ونموذجاً، هي التي تخترع قصة جديدة كل ليلة لزوجها كي تبقى على قيد الحياة، ولو لليلة. قبلها، كانت تأتي شابّة جديدة لسرير السلطان شهريار كل ليلة، يأخذ غرضه منها ثم يقتلها. قام رشدي بحساباته: هذا يعني أن هناك أكثر من 3200 شابة. إلا أن شهرزاد الحكّاءة الذكية تركت الفضول يأكله بشأن ما ستسفر عنه قصتها.

العديد من الروايات العظيمة في القرن التاسع عشر ظهرت لأول مرة كروايات متسلسلة في الصحف والمجلات الغربية. كان لكل منها التأثير نفسه تقريباً. أولئك الذين بدأوا القراءة أصبحوا مدمنين على "أوليفر تويست" أو "الكونت مونت كريستو". في عصرنا الحالي، أولئك الذين وقعوا في حبّ مسلسل " The Sopranos" - أو مثلي في حبّ "The Wire" - يعرفون أننا ننسى النوم لأننا لا نستطيع التوقف عن متابعة قصة آسرة. بغض النظر عما قد يخبرنا به الآخرون، كتب رشدي أن شهرزاد ساعدت السلطان على أن يصبح إنسانًا من خلال سرد القصص له.

الآن، أسحب جملة "كل هذا هراء" أعلاه. فعلتُ ما علّمني رشدي أن أفعله: رويت لنفسي قصصاً حتى لا أترك حقيقة وفاته/ مقتله التي لاحت في الأفق تحبطني. هل نجحت؟ ربما. لكن التحرّر لم يجئ إلا من خلال الواقع ذاته. يوم الأحد، يقرأ في "الغارديان" البريطانية: سلمان رشدي في حالٍ أفضل، يروي القصص مرة أخرى ويطلق النكات. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها