الأحد 2022/08/14

آخر تحديث: 09:55 (بيروت)

"انتهاك الصوفية".. الجريمة المتعددة الوجوه

الأحد 2022/08/14
increase حجم الخط decrease
 
ليس من باب المبالغة، القول إنه لم يتفرق دمٌ بين القبائل في عصرنا الحديث، مثلما تفرّق دم "الصوفية". فهو ذلك الدم، الذي تشعّب إلى فصائل شتى، وصار له ألف وجه ووجه، وألف لسان يتحدث عنه، وسط طوفان لا ينتهي من الكتب التنظيرية، والمؤلفات الإبداعية من رواية وقصة وشعر ومسرح، والأعمال الدرامية المتنوعة، والمهرجانات الموسيقية والإنشادية والفنية، والمناسبات الاجتماعية والشعبية، والاحتفالات الدينية، وغيرها من الثيمات والكرنفالات الأدبية والفكرية والعلمية والإنسانية، التي تقتات على التراث الحي للصوفية وكبار المتصوفين في التاريخ العربي والإسلامي.

ثمة ثلاث نوافذ، بإمكان المتلقي في يومنا الراهن، أن يطلّ من إحداها على الصوفية كفكر وفلسفة وتجربة روحية وحياتية عميقة. وهو مصيبٌ إن اختار إحدى النافذتين الأولى أو الثانية، ومخطئ ومضلَّل إلى أبعد الحدود إذا سقط في فخ النافذة الثالثة، وهي لسوء الحظ النافذة الأرحب والأيسر والأرخص التي تستقطب الأغلبية حاليًا وتمدّهم بالخرافات والخزعبلات حول الصوفية، إلى جانب الأمور الملفقة والمدسوسة عن عمد، وذلك بهدف تمرير أفكار مريبة وتعليمات موجّهة ومسيّسة تحت دعوى الصوفية.

النافذة الأولى، التي لا ريب فيها، هي انفتاح المتلقي بشكل مباشر، وبدون وسيط، على النتاج الصوفي عبر التاريخ. بمعنى أن يطّلع القارئ بنفسه على منجزات علامات المتصوفة وأقطابها الكبار، من أمثال النفّري وابن عربي وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي وآخرين. وأن ينخرط في استيعاب اجتهادات المتصوفة وكتاباتهم ومؤلفاتهم العريضة في الفلسفة والفكر والأدب والمسائل العقائدية والفقهية وغيرها. بالإضافة إلى أهمية إلمام المتلقي، واسع الأفق بالضرورة، بالحيثيات التاريخية والدينية والملابسات الاجتماعية وسائر الظروف المحيطة بنشأة المدارس الصوفية وتطورها عبر مراحلها المتتالية، وصولًا إلى ما آلت إليه في السنوات الأخيرة.

تلك نافذة أولى تتحرى الحقائق بطبيعة الحال حول الصوفية والمتصوفين، بقدر كبير من الدقة والموضوعية. وتكاد تقترب منها النافذة الثانية في الحصافة والرزانة، رغم أن القارئ/المتلقي يلجأ فيها إلى وسيط، لكنه وسيط جدير بالثقة بما يتسم به من منهجية وعقلانية. هذا الوسيط، الذي يقود المتلقي إلى معرفة الصوفية عبر النافذة الثانية الآمنة، يتمثل في الفكر الفلسفي والإسلامي المعاصر، وما أفرزه، ويفرزه، لاسيما تحت القبة الجامعية، من أطروحات جادة حول التصوف كمذهب ناضج وحركة روحية قابلة للتفجر والتوهج في يومنا هذا، لإحداث التغييرات الإيجابية المنشودة في مختلف الميادين.

ومن أبرز ما يذهب إليه هذا الفريق المؤهل من فلاسفة الصوفية ومفكريها المعاصرين وباحثيها الأكاديميين، ومنهم المصري أبو العلا عفيفي على سبيل المثال في كتابه "التصوف.. الثورة الروحية في الإسلام"، أن التصوف هو المرآة التي تنعكس على صفحتها الحياة الروحية في أخص مظاهرها. وقد تطور التصوّف كحياة متكاملة وطريق للعبادة، وأحدث ثورة مذهلة في مجالات الفقه والتوحيد والأخلاق ومحبة الخالق والذكر واقتباس النور الإلهي والمعرفة وعلوم الكلام واللغة والأدبيات الإبداعية وغيرها. كما فتح فضاءات جديدة للفهم المتأني للجوهر الديني، من خلال القلب والتذوق، وليس من خلال العقل وحده كما كان الحال في التفسيرات القديمة، الجافة والقاصرة، لدى الفقهاء والباحثين والعلماء التجريبيين. 

ويمثّل التصوف بهذا المفهوم تجربة روحية فذة وحالة وجدانية استثنائية تتحرر فيها الإرادة الإنسانية لبلوغ المعرفة اللامتناهية والحقيقة المطلقة. ويشكل الحب أعلى مظاهر التصوف، حيث تدفع العاطفة والإرادة النفس البشرية إلى تجاوز حدود العقل والعالم الحسي، فتدرك خالقها وتتصل به عن طريق الحب، وهنا تأتي المعرفة من خلال حب الحقيقة، والسعي إليها. وهذا الوعي الصوفي فوق العقلي يسمى "الوعي السامي"، ويقود إلى تجربة صوفية مهمة يطلق عليها "الميلاد الروحي" للشخص. وقد "أجمع الصوفية في كل عصر على ضرورة التزام الشرع، واتباع الدين، ولكنهم لم يفهموا في أي وقت من الأوقات من الدين حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها". ومن ثم، فقد أوصل التصوف الإنسانية إلى منابع الفيض الروحاني، والعلم الباطن، وكنوز الوحي والإلهام، فصار عالم الحقيقة أو "الوجود المحجوب" قريبًا من الإدراك والتذوق. 

وعلى النقيض تمامًا من هاتين النافذتين المضيئتين بأمانة مسلك المتطلع إلى الصوفية والمتصوفين، تأتي النافذة الثالثة غير الدقيقة، أو السطحية الساذجة، أو المشوّهة. بل إنها يمكن وصفها في أحوال كثيرة بالمخادعة والخبيثة، وذلك لما قد تمارسه من انتهاك مقصود للصوفية وتضليل متعمد للمتلقي. ويأتي ذلك بهدف الاستغلال التجاري للتريند مثلًا لتحقيق مكاسب تجارية (الرواية الأكثر مبيعًا، المسرحية كاملة العدد، الخ)، أو من أجل توجيه الوعي الجمعي إلى قناعات بعينها قد تخدم السلطة مثلًا أو فئات وجماعات محددة، من قبيل تقزيم معنى الصوفية وتحريفه، ليكون مثلًا مرادفًا لقبول السواد الأعظم من الشعب بالفقر والحرمان والتمييز تحت مظلة القيم الصوفية المعروفة كالزهد والتقشف والعزلة.

تتنوع صور التمسّح بالصوفية، وامتهانها، على نحو منقطع النظير. فمن العبارات والمقولات المأثورة المنسوبة "بالخطأ" إلى شيوخ المتصوفة على مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا، إلى السلوكيات الفجة والبذيئة (الدّرْوَشَة، والحركات الجسدانية الراقصة المفرغة من دلالاتها الروحانية) في المناسبات الشعبية والموالد الخاصة بأقطاب الصوفيين وأئمتهم (السيد البدوي، إبراهيم الدسوقي، الخ). ومن المهرجانات والاحتفالات ذات الطابع الفني الديني المزدوج (حفلات الموسيقى الروحية، وفرق الإنشاد الغنائي الحديثة، والليالي الصوفية في مسارح دار الأوبرا المصرية، ومهرجان "سماع" لإطلاق رسائل السلام، الخ)، إلى تلك الأعمال الإبداعية المسرحية والروائية والشعرية وغيرها، التي تنحت التجربة الصوفية كمفردات وشخصيات وأفكار على نحو استسهالي، أو دعائي، أو تلقيني لتنفيذ غرض ما محدد سلفًا.

ويكفي انتقاء بعض الشواهد القليلة من هذه الالتفاتات الفنية الإبداعية إلى حقل التصوف بآليات تأتي عادة مثيرة للجدل أو للاستياء. من ذلك، مثلًا، مسرحية "قواعد العشق 40" لفرقة المسرح الحديث، التي عُرضت منذ فترة وجيزة في القاهرة، والمأخوذة عن رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق. وتستلهم المسرحية، مثل الرواية، في الطبقة التاريخية من نسيجها المتشابك، تفاصيل العلاقة بين جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، التي أدت إلى تحوّل الرومي إلى شاعر وفيلسوف شاعر، بعدما كان عالمًا وفقيهًا. 

ووسط ركام من تسطيح المعالجة المسرحية للأفكار الصوفية الجادة التي أوردتها الرواية بشكل مهني رصين مثل الاستبطان والمعاني المتعددة والخفية في تأويل النص القرآني وما إلى ذلك، فإن المسرحية نسجت أيضًا على نحو ضحل وربما موجّه ما اعتبرته بمثابة معانٍ أو قواعد جديدة للتصوف في ثوبه العصري! ومن تلك النقاط والكليشيهات التي جرى إملاؤها على الجمهور بشكل مدرسي تلقيني على ألسنة رموز التصوف القدامى (للإيهام بأنهم هم الذين وضعوها): ضرورة اعتماد المحبة مبدأ بين أصحاب الديانات المختلفة في المجتمع من أجل إعادة بناء الوطن المشترك، والانسحاب من معترك الحياة وأزمات الواقع المرير بالترفع عن مواجهتها والتصدي لها، والتسلح بالتطهر الذاتي الداخلي وتجديد الخطاب الديني والارتقاء بالفنون الرفيعة (بما فيها الموسيقى والرقص) لمواجهة جماعات التعصب والإرهاب وأصحاب الأفكار الهدامة.

وعلى نحو لا يقل تهافتًا، جاءت أيضًا مسرحية "رسائل العشاق" للبيت الفني للمسرح في القاهرة، التي عُرضت منذ أشهر قليلة. وهي تستحضر جلال الدين الرومي "إمام العاشقين" لتضخ من خلال شخصيته، التي تم تجسيدها بشكل كاريكاتيري هش، مقولات بدائية وإرشادية، على اعتبار أنها نبوءات صوفية يبوح بها الرجل الذي يرتدي على طول الخط عباءة بيضاء وشالًا أخضر! وترسم المسرحية الرومي بوصفه معالجًا لسائر الأزمات الواقعية والقضايا المجتمعية (الفساد، الغلاء، البطالة، العنوسة، العنف، الخ) من خلال تذكرة واحدة لا تحتوي سوى على كلمة "الحب"، كطوق للنجاة من كل الكوارث في هذه الحياة الشائكة.

أما التعاطي الإبداعي الأدبي مع الصوفية، فإنه لا ينزلق إلى مثل هذه الركاكة وهذا الابتذال على خشبة المسرح بالتأكيد. وإن كانت هناك مساءلات كثيرة، للتجارب الشعرية الحديثة والمعاصرة على وجه الخصوص، بشأن تقمص شعراء، يعيشون في عالم مادي ويسكنون أبنية فارهة في مدن صاخبة، قناع الصوفية. وهم لا ينخرطون في حركة أو مدرسة أو طريقة صوفية على الصعيد الواقعي (كما كان الحال في الماضي)، ومع ذلك تأتي قصائدهم "على مستوى المفردات والأخيلة" اشتغالًا على التراث الصوفي، بدون وجود قيمة جمالية مضافة، أو مبرر ذاتي أو اجتماعي (الحالة الفردية، التيار الصوفي). وتبدو أغلبية هذه التجارب مكابدات شكلانية لا تتخطى المدارات اللغوية والمغامرات الافتراضية التي تفتقر إلى مصداقية النزف والاكتواء والحياة الصوفية.

ولعل الروايات العربية هي الأكثر جدية ومهارة في النسج على منوال الصوفية، واستعادة شخصيات المتصوفة من التاريخ وإقحامها في معركة الواقع دراميًّا، كما في روايتي "موت صغير" للسعودي محمد حسن علوان، و"شوق الدرويش" للسوداني حمور زيادة على سبيل المثال. وإن كانت أصابع التشكك والاتهام لم تتوقف أيضًا عن الإشارة إلى الانحيازات والتوجهات في النظرة إلى التصوف في بعض هذه الروايات. 

ومن ذلك، ما أثير عن أن رواية "موت صغير" لم تكن لتصعد هكذا في بلد كالسعودية يعادي الصوفية صراحة، لولا أن الكاتب أبعد شخصية "ابن عربي" عن حقيقتها لاستمالة السلفيين، فجاء في الرواية غير رافض للتكفير مثلًا، ما قد يقود إلى التحريض على القتل. كما أدينت الرواية لاتخاذها من الصوفية مدخلًا لتأييد التدخل السعودي في الحرب السورية وفق بواعث دينية طائفية، إلى آخر هذه الأمور التي وصفها النقّاد حال فوز الرواية بالبوكر بأنها "مغالطات" في حق ابن عربي، والصوفية، والتاريخ الموضوعي المجرد.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها