الأربعاء 2022/08/10

آخر تحديث: 11:41 (بيروت)

الجنرال في جحيمه

الأربعاء 2022/08/10
الجنرال في جحيمه
increase حجم الخط decrease
بالنسبة إلى سلافوي جيجك، الجحيم هو لاوعي المؤسسات بصرف النظر عن الكيفية التي قد يتجسد عبرها هذا الجحيم... حروب أهلية، فساد، أزمات اقتصادية أو أعمال شائنة من قِبل القيّمين على إدارة الشؤون...

عندما سئل الجنرال ميشال عون إلى أين نحن ذاهبون، أجاب بلا تردد: إلى جهنم، وكأني بهذا الرجل، وهو زبدة النظام اللبناني في شكله الأخير، قد ملّ المكوث في غياهب لاوعي النظام… في فيلم Lock Up يقول رئيس السجن للوافدين الجدد: "هذا هو الجحيم، وسوف أقوم بدور الدليل في جولة به"، وهي الجولة التي نعيشها دقائقها عبر رئيس هذا السجن المُسمّى "العهد القوي". 

منذ إعلان دولة لبنان الكبير في أيلول 1920، والنظام اللبناني يستبطن كل شروط جهنم، وهي شروط ما انفكت تنبثق بأشكال متفاوتة من العنف والأزمات، بدءاً بشيوع الفساد مع البدايات الأولى للجمهورية "المستقلة" في عهد الشيخ بشارة الخوري، فحرب العام 1958، فاحتضان اتفاق القاهرة العام 1969، وصولاً الى حروب 1975 التي انتهت باتفاق الطائف حينما أخمد جحيم الدم الذي أسس لجحيم الفساد والمحسوبيات وتقاسم الحصص ومغانم السلطة ومَلْيَشَة الإدارة والمؤسسات. بيد أن ميشال عون أبى إلا أن يختزل كل هذا الجحيم عبر حلف مع "حزب الله" أوصله لسدة الرئاسة الأولى، ليكون رمز هذا الجحيم في التالي من تاريخ هذه البلاد. من النافل أن جحيمنا في لبنان لا يقتصر على هذا الحلف الذي حوّل حياتنا إلى واقع جهنمي بامتياز، فلكل من أركان السلطة، حتى أولئك الذين لم ينتخبوا عون، حصة في تعزيز هذا الجحيم. على كل حال لا يستفرد الشيطان بالإنسان إلا إذا استدعاه الإنسان... فمن له أن ينكر أن لأهل السلطة عندنا كمّاً هائلاً من الناس التي تستدعي هؤلاء الشياطين؟!

ما خلا المأساة، لا حقيقة واضحة في عالم جهنم، فجهنم هي هوشة من الفوضى والغموض والحيرة والآلام، إنها "صحراء متحركة" لا تني تفاجئنا بجديد ويلاتها إذا أردنا أن نستعير جاك دريدا في نص له، ليس عن لبنان إنما عن جهنم، وإن كان الأمر سيّان مع عهد ميشال عون... (جاك دريدا \ أفكار حول جهنّم).

أكثر ما يلفت النظر لدى الإحتكاك بنا، نحن اللبنانيين اليوم، هو غيابنا عن أنفسنا، تضعضعنا، غرابة أطوارنا بسبب ما نكابده وقد سقطت آمالنا في العيش "إلى ما دون الحاجات"، وهذا نمط من أنماط جهنم، وأنا أوافق دريدا كلياً في هذا المقام: "فالإنسان التعس تماماً، الإنسان المسحوق... بالجوع والمرض والخوف يصبح غير ذاته، حياداً فارغاً، شبحاً تائهاً..."، في تلك الصحراء المتحركة من العوز واللاعدالة والخوف واللايقين. 

تحوّل المشهد بالنسبة إلينا في لبنان عن أن يكون حالة مؤقتة أو شواذاً قد يُعمل على إصلاحه، أو زمناً قاحلاً سيأتي يوم ويولي الأدبار، كلا... ثمة قناعة ترسختْ في أذهاننا بعمق، أن هذا الذل قَدَر، وما علينا سوى مماشاته أبد الدهر، وكأن ثمة قوى غيبية لا علاقة لنا بها كآدميين تأخذ مقاساتنا بما يتناسب مع ما نرزح تحته من شؤم ونحس.

... هي قوى اتخذتْ ملامح وجوه كثيرة اختزلها عون الرئيس، لنكون إزاء "علائم شؤم تصوغ حياتنا كل يوم"، وهل أدرى من غابرييل غارسيا ماركيز أستاذاً ليشرح لنا هذا الأمر!! (ماركيز \ "ساعة النحس"). نعم، إن الحياة في ظل هذه الوجوه، هذا النحس الذي يركبنا "ليست سوى تتابع فرص متتالية فقط من أجل البقاء على قيد الحياة"، كما جاء على لسان إحدى شخصيات رواية ماركيز. 

قد يصل بنا الأمر إلى أن نستلذّ ذلّنا، احتقارنا لأنفسنا، امتهان كرامتنا، فنتواطأ بهذا مع "زعمائنا"، مع تلك الوجوه، في تجسيد لاوعي المؤسسات كما يحب جيجك أن يقارب الموضوع. قد يصل بنا الأمر حدّ التمتع ببؤسنا، باللاعدالة التي تلفنا، بالخنوع لمساطيل ومهابيل تمكنوا من السلطة ملياً، بسبب ما يحايثنا من نحس في عهد ميشال عون... فالنحس واقعة برانية، وما علينا سوى السير بمقتضى شروطها التي تستمد وهجها من أفق جهنم. نحن في لبنان صرنا أقرب إلى كائنات ميتافيزيقية تصوغها مفردات الجحيم.

ثمة إيمان ميتافيزيقي تلبّسنا مع العهد العوني، وهو أن هؤلاء الذين يتولون شؤوننا، ليسوا بشراً مثلنا من لحم ودم، إنما هم أقدار شريرة وما علينا سوى تقبّلها، سوى مجاراتها في خصوماتها المدروسة بإحكام جهنمي.

لا شيء يمنع – والنحس قد ساد - من أن نرى الإنقلاب على هؤلاء دسيسة، مؤامرة على القدر المبثوث في الألواح المحفوظة، خرقاً لمشيئة الله.

إن هذا الجحيم المنفلش وقد كفّ عن المراوغة والتلوّن، مع عهد ميشال عون، هو صريح أيامنا الوحيد. ثمة في هذا البلد مَن تحقق لديه أن خلاصه من هذا النحس المسترسل جحيماً يكون عبر "القوقعة" أو عبر "السلاح" أو عبر "البلطجة" أو عبر "استعادة الحقوق" أو عبر الركون إلى تاريخ وهمي، مُشتهى، مبتور وأجوف يمتد ستة آلاف سنة إلى الخلف، والكثرة الكاثرة ترى خلاصها في حبل ممتد نحو السماء، أما الأرض...

جاء في رواية "الجحيم" لهنري باربوس: "إن الأرض تنتظر توابيتنا، وستحصل عليها وهذا ليس بالأمر البعيد"... فلنذهب حيث يليق بنا إذن، ولنترك الجنرال في جحيمه مع تعدّد وجوهه الكثيرة عبر تعدّد زعماء لبنان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها