السبت 2022/07/09

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

مترو أنفاق القاهرة... وركاكة غادة والي العالمية

السبت 2022/07/09
مترو أنفاق القاهرة... وركاكة غادة والي العالمية
جدرايات غادة والي في مترو الأنفاق (تصوير: أمنية السرجاني)
increase حجم الخط decrease
الفضيحة المتعلّقة بسرقة المصممة المصرية، غادة والي لأربع لوحات من الفنان الروسي جورجي كوراسوف، أخذت أبعاداً تجاوزت خيانة الأمانة المهنية وأخلاقيات العمل الفني. فاستخدام اللوحات المسروقة لتصميم جداريات محطة "كلية البنات"، الواقعة على خط المترو الأنفاق الثالث في القاهرة، سحب الواقعة من سياق المهني أو الفردي إلى أرضية العام.

فشبكات المترو في مدن بالغة الضخامة مثل العاصمة المصرية أكثر من مجرد عصب رئيسي لحركة سكانها اليومية ومعاشهم. فمع تمدد خطوط الشبكة القاهرية منذ تأسيسها في الثمانينيات لتصل إلى أربعة خطوط، قارب مخيال المدينة نفسه، كمجاز مكثف عملي لكل تشابكاتها وتفاعلات سكانها على اختلافاتهم العديدة. قبل سنوات قليلة، مثلت احتجاجات سكان حي الزمالك ضد وصول المترو إليهم، نموذجاً لهذا الوعي بأن الشبكة تعني وصلاً طبقياً له أن يلوث مناعة جزيرتهم المعزولة، ويدمجها في هذا المحيط الهائل للعاصمة والملايين من سكانها. بهذا، فإن شبكة مترو الأنفاق هي المكان العام بأكثف صوره تجليلاً ورسمية.

في موسكو السوفياتية، أُطلق على محطات الشبكة المؤسسة في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، اسم "قصور الشعب". أراد مصمموها أن يختبر المواطنون فيها تلك الأبهة الأرستقراطية، بتحويل حوائط المحطات وأسقفها إلى معارض للفن الباذخ وبهرجة البلاط القيصري. لم تكن الحكومة السوفياتية قادرة على الوفاء بوعود اليوتوبيا الشيوعية، فمنحت مواطني العاصمة، تلك الفرصة الاستثنائية والمتاحة دائماً لاختبار العظمة وامتلاكها بالتساوي لبضع دقائق كل يوم. هكذا صارت شبكة موسكو مثالاً يحتذى به، حتى من قبل المرافق الأعرق في عواصم أخرى، بحيث أصبح لجماليات المترو البصرية دلالات سياسية وأيديولوجية مباشرة وطاغية. وفي لندن، صاحبه أقدم شبكة لقطار الأنفاق، أضحى شعار المترو وسماً للمدينة كلها.



إذن، كيف وصلت بنا الركاكة إلى شَفّ (أو كزّ) جداريات فرعونية من لوحات فنان روسي؟ قبل أربعة أعوام، ظهرت غادة والي فجأة في منصة المؤتمر السادس للشباب، أمام الرئيس السيسي. وهناك قدمت مشروعها الهادف لـ"خلق هوية بصرية" لكل مدن ومحافظات الجمهورية لأغراض سياحية. استخدمت والي كلمة "براندينغ" لتصف عملية التسويق التجاري هذه، كخليط من لغة ريادة الأعمال، ووطنية عالقة في الزمن. فبحسبها، المصريون وحدهم، على مر التاريخ، ظلوا كما هم، من دون أن يتأثروا بأي ممن مروا عليهم أو خالطوهم. حملت لكنة غادة المرققة على مقاس خريجي المدارس والجامعات الأجنبية، دلالات امتيازاتها الطبقية، لكن هذا لم يمنعها من التبرم، في كلمتها، من العولمة وميل الشباب لتقليد الغرب. كان ردها على هذا، هو الوعد بأن تخلق لنا تلك الهوية البصرية "الأصيلة"، والواجب ألا تحتوي إلا على ما نحب أن نراه في أنفسنا وأن يراه الآخرون فينا.

هكذا، مثلت غادة نموذج الشباب الذي يبتغيه النظام، أو بالأحرى الشباب كما يحب أن يراه، ريادة أعمال مفرغة من كل ما هو سياسي، باستثناء وطنية قابلة للتسويق التجاري، ومظهر مودرن دلالته لكنة مصرية مخلوطة بأعجمية التعليم الأجنبي. لكن صعود غادة السريع لم يأت من فراغ. فحين وقفت على منصة مؤتمر الشباب، كانت لديها بالفعل لائحة ليست بالقصيرة من الألقاب والجوائز "العالمية" التي حازتها. اختارتها مجلة "فوربس" كواحدة من أهم ثلاثين مصمم في العالم تحت سن الثلاثين، وكانت أصغر متحدثة عربية في محاضرات "تيد" العالمية، ولديها -بحسب مؤسسة أميركية مقرها شيكاغو- واحد من أفضل مئة تصميم حول العالم. وبالرجوع إلى إنجازها المهني الذي استحقت عليه هذه التكريمات، يتضح أنه يعود إلى قيامها بتصميم للحروف العربية باستخدام الليغو، من أجل تعليم الأطفال. ولا يبدو ذلك إنجازاً استثنائياً، لكن الشبكات الغربية لتوزيع الجدارة تعمل على انتقاء وتصعيد عدد من القادمين من بلادنا وغيرها من دول الجنوب، بغية إسباغ صفة التنوع على نشاطها، وتشبيك علاقاتها ومد نفوذها عبر الحدود. وفي أحيان ليست بالقليلة، يفتقد هؤلاء الأفراد المصعدون بختم "العالمية" لأي إنجاز، سوى قدرتهم على الولوج إلى المؤسسات الغربية وشبكاتها، بفضل امتيازاتهم الطبقية في بلادهم. ومن ثم يعاد تصدير هؤلاء إلى بلدانهم الأصلية، حيث تحظى صفة العالمية بأعلى درجات الاعتراف والتبجيل محلياً.

في سياق التعليق على واقعة السرقة الفنية، عُقدت المقارنات بين غادة وسابقيها ممن أُسند إليهم تصميم المحطات وجدارياتها. الفنان الراحل صلاح عبد الكريم، ومعه ممدوح عمار وزكريا الزيني وأحمد نبيل للخط الأول، وبالنسبة للمرحلة الثانية، كانت التصميمات من عمل الفنان سامي رافع، المعروف بتصميمه نصب الجندي المجهول، أما المرحلة الثلاثة فتولاها محمد مكاوي العميد الأسبق لكلية الفنون الجميلة. حمل هؤلاء جميعاً، بالإضافة إلى صفة الفنان، لقب الدكتور الأكاديمي، وعمل جميعهم في الدولاب البيروقراطي للدولة ومؤسسات الجامعة الحكومية. لم تكن تصميماتهم لجداريات مترو أنفاق القاهرة استثنائية، بل جيدة بما يكفي، جماليات بسيطة وموجزة وسهلة التنفيذ والصيانة، بأشكال أقرب إلى التجريد وحد أدنى من ألوان موزاييك الحوائط الذي تغلب عليه المساحات البيضاء، فبدت التصميمات متأثرة بتصميمات محطات الشبكة اللندنية، لكن بذائقة محلية خاصة ويمكن تمييزها بسهولة. أما الموضوعات، فكانت على البساطة نفسها، وبمباشرة حصنتها من الابتذال، وتجرد عناصرها البصرية وتقشفها.

الفارق بين هؤلاء الأساتذة وبين غادة، ليس فقط التفاوت في الرصيد الفني والمعرفي، بل الأهم في مصدر الاعتراف. فالمسافة بين الاعتماد على انتلجنسيا الدولة وبيروقراطيتها من جهة، وبين إيكال المهمة إلى رواد الأعمال والمواهب الفردية من جهة أخرى، تظهر التحول البطيء والتدريجي في تعامل الدولة المصرية مع المرفق العامة، من نطاقات لتفاعل المواطنين مع مدينتهم وساحة لفرض السلطة لهيمنتها الأيديولوجية، إلى موضوعات للاستغلال الرأسمالي بمنطق ريادة الأعمال ولحملات تسويق وسوم تجارية بنكهة هوية وطنية "مختلقة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها