الجمعة 2022/07/08

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

كعبة الأنام وكعبة الروح

الجمعة 2022/07/08
increase حجم الخط decrease
في كتابه "تاريخ بغداد"، وضع أبو بكر الخطيب سيرة للحسين بن منصور، نقل فيها كل ما جمعه من أخبار وشهادات خاصة بحياة هذا الداعية الذي "كان يتكلم على أسرار الناس وما في قلوبهم، ويخبر عنها، فسمّي بذلك حلاج الأسرار، فصار الحلاج لقبه". في هذه السيرة، أشار الراوي إلى رحلات الحج الثلاث التي قام بها الحلاج في حياته، وقد مثّلت كل رحلة من هذه الرحلات تطوراً كبيراً في مسيرة هذا الصوفي، وأدت في النهاية إلى إهدائه مهجته ودمه إلى الحبيب الحق.

في حجته الأولى، قام الحلاج بممارسة أصعب الرياضات الروحية، "فجلس في صحن المسجد سنة لا يبرح من موضعه إلا للطهارة أو للطواف، ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر. وكان يُحمل إليه كل عشية كوز ماء للشرب وقرص من أقراص مكة، فيأخذ القرص ويعضّ أربع عضات من جوانبه، ويشرب شربتين من الماء، شربة قبل الطعام وشربة بعده، ثم يضع باقي القرص على رأس الكوز، فُيحمل من عنده". ويُروى أن بعض الصوفيين رأوه و"هو جالس على صخرة من أبي قبيس في الشمس، والعرق يسيل منه على تلك الصخرة"، فقال واحد منهم: "إن عشت ترى ما يلقى هذا، لأن الله يبتليه بلاء لا يطيقه: قعد بحمقه يتصبّر مع الله".

إثر هذه الحجة الأولى، تنقل الحلاج بين الأهواز وخراسان وبغداد، ثم قصد مكة حاجاً للمرّة الثانية، ثم شرع في رحلة طويلة، فانتقل من بلاد الترك إلى الهند، وبلغ الصين، "ودعا الخلق إلى الله تعالى، وصنف لهم كتباً"، وعند عودته إلى موطنه، "كانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث، ومن بلاد ماصين وتركستان بالمقيت، ومن خراسان بالمميز، ومن فارس بأبي عبد الله الزاهد، ومن خوزستان بالشيخ حلاج الأسرار، وكان ببغداد قوم يسمّونه المصطلم (أي المأخوذ عن نفسه)، وبالبصرة قوم يسمّونه المحير، ثم كثرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السفرة، فقام وحج ثالثاً وجاور سنتين، ثم رجع وتغيّر عما كان عليه في الأول"، وخرج بدعوته الخاصة، فثارت عليه جماعة من أهل العلم، وقبّحت صورته. وهاجمه الكثيرون من مشايخ الصوفية، فكان منهم قوم يقول إنه ساحر، "وقوم يقولون مجنون، وقوم يقولون له الكرامات وإجابة السؤال، واختلفت الألسن في أمره حتى أخذه السلطان وحبسه". نُقل الحلاج من سجن إلى سجن، ثم جرت محاكمته وحُلَّ دمه بعد اتهامه بالزندقة.

في تقصيّه أخبار هذه المحاكمة، ينقل الخطيب البغدادي رواية تقول إن القضاة نسبوا إلى المتّهم "كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه، أفرد في داره بيتاً لا يلحقه شيء من النجاسة ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت، فإذا انقضى ذلك وقضى من المناسك ما يقضى بمكة مثله، جمع ثلاثين يتيماً وعمل لهم أمرأ ما يمكنه من الطعام وأحضرهم إلى ذلك البيت، وقدّم إليهم ذلك الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم وغسل أيديهم كسا كل واحد منهم قميصاً، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج".

بعد محاكمة طويلة، دِينَ الحلاج وأُعدم في بغداد العام 922، وجاء موته بعدما بلغ قمة الحج الروحي المجرد، وبرّ بالوعد الذي قطعه ببذل ذاته، وهو القائل: 

للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني/ تُهدى الأضاحي وأُهدي مهجتي ودمي 
يطوف بالبيت قوم لا بجارحة/ بالله طافوا فأغناهم عن الحرم

افتتن الكثير من كبار أدباء الروح بهذا الحج المجرّد، ومنهم فريد الدين العطار الذي نسج العديد من القصص التي ميّز بها بين كعبة الروح وكعبة الأنام، وقصد من خلال هذه القصص ترجيح الأولى على الثانية وفقاً لرؤية صوفية خالصة. في "حلية الأولياء"، روى العطار قصصاً قصيرة تتناول رحلات حج رابعة إلى الكعبة، ومنها قصة تقول: "يُروى أن رابعة كانت بسبيل الحج، فرأت الكعبة قادمة نحوها عبر الصحراء، فقالت: لا أريد الكعبة، بل رب الكعبة، أما الكعبة فماذا أفعل بها؟ ولم تشأ أن تنظر إليها".

كعبة الحائرين
في منظومة "مصيبت نامه" (أي "كتاب الألم")، صاغ العطار قصصاً أخرى في المعنى نفسه، منها قصة بطلها هندي واله، "كان في مقام العشق صاحب رؤية"، رأى قافلة من الحجاج، فسأل: "ما الحج؟"، فقيل له: "هو مكان بيت الله، كل من يسكن هناك ولو للحظة، يأمن عذاب الخلد". اضطربت روح الهندي عند سماع هذا الكلام، وانكبّ على وجهه، وقال: "لن أغادر مكاني ليل نهار طالما لم تحملوا رجلاً مثلي إلى مكان الحج"، فكان له ما أراده، وحين أدرك البيت، سأل: "أي الله؟ فأنا لا أراه في أي موضع"، فقيل له: "أنّى له أن يسكن في البيت، فاخجل، هذا بيته وهو ليس فيه، ويعلم هذا السر كل من ليس بمجنون". جنّ الهندي، وراح يصيح منتحباً: "أيّها المسلمون، لماذا أحضرتموني حائراً إلى هنا؟ ماذا سأفعل بالبيت بدونه؟ صار البيت الآن للمجنون قبراً، لو أنا حائر فمن يرشدني؟ كيف يظهر لي الطريق لهذا كلّه؟ حينما احضرتموني إلى هنا، أحضرتموني بلا بداية ولا نهاية، فإما أن يلزمني المقام بالبيت، أو مع ربّ البيت والسلام".

في منظومة "مصيبت نامه" كذلك، روى العطار قصة أخرى على هذا المنوال بطلها قيس بن الملوح، الشهير بمجنون ليلى. تقول هذه القصة إن أحد الأشخاص سأل المجنون عن اتجاه القِبلة، فأجابه: "إذا كنت أحمق جاهلاً، فهي لك الكعبة، فانظر إلى الحجر. جاءت الكعبة لعشاق المولى، وجاء وجه ليلى لذلك المجنون، وحين لا يكون لك هذا ولا ذاك فأنت أحمق، وتكون قِبلتك من الحجر أيها المهذار الفاجر". يختم الراوي هذا الخبر بالقول موضحاً: "حينما تكون الكعبة قِبلة الخلق، فإن مكان القِبلة دائماً هو كعبة الروح، وأحياناً يكون في حرم الروح مائة ألف كعبة للحائرين". تسبق هذه القصة، قصة بطلتها مرة أخرى رابعة العدوية، وفيها تنقطع عن الدنيا وتقبع في منزل معتم حالك، فيقصدها زاهد، ويسألها أن تخرج كي تشاهد الدنيا، وتتعرّف على عالم الصنع المتغيّر. فتجيبه: "تعال إلى داخل المنزل، حتى ترى الصانع يا صاحب الرأي المجنون، ماذا سأفعل بالبحر والبر؟ فأنا غارقة مع الصانع ولا أهتمّ بالصنع". كعادته، يضيف العطار: "لو كان للصانع طريق في قلبك، فكيف يكون هناك نقصان على ذلك الصنع؟ كعبة الروح هي رؤية وجه الحبيب، وتكون رؤية وجهه في كعبة الروح، لو كنت ترى فأنت عندي ذو بصيرة، وإن كنت لا ترى فأنت عندي بلا دين".

يتجلّى المعنى بشكل ساطع في قصة أخرى من "مصيبت نامه"، بطلها هذه المرة إبراهيم بن محمد بن محمويه، الشهير بأبي القاسم النصر آباذي، وهو من أعلام التصوف في القرن العاشر، وقد رحل في نهاية عمره إلى مكة واستقرّ فيها حتى وفاته. تقول هذه القصة إن رياح الصبا هبّت على الحرم، فسرّ الشيخ، وأخذ بطرف أستار الكعبة، وقال: "ايّتها العروس الرعناء المتعالية؟ تجلسين وسط مكة بدلال، تزيّنين نفسك كالعروس، وتجعلين الدرويش عالماً وإلهاً. حينما صار مائة عالم من الناس حائرين بسببك، صاروا تحت كل اشواك المغيلان (وهي شجرة شوكية) بسببك. تأسرين عاشقاً كل لحظة، فكم تقتلين بدلالك الزائد؟ حتام تحلقين بلا جناح؟ لو قال لك الحبيب البيت مرة، فقد قال يا عبدي سبعمائة مرة". ويرى المفسّرون أن ذكر "البيت" في هذا القول يشير إلى الآية القرآنية: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" (البقرة 125)، وذكر "يا عبدي" يشير إلى حديث يقول: "عبدي أطعني حتى أجعلك عبداً ربانياً تقول للشيء كن فيكون". وهذا الحديث يصفه البعض بالقدسي، ويصفه البعض الآخر بالموضوع.

يختم العطار شاطحاً: "كل من صار عبداً بسرّ المحبة، صار حتى الأبد مَحْرماً وحيّاً أيضاً، لوى رأسه عن أمر السابقين، وأسر الأحباب عن النور والنار، حتى جاءوا فراداً وأحراراً، جاءوا سعداء بدون جنة عدن". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها