الخميس 2022/07/07

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

بهرام حاجو... غريب في البلاد التي احتضنته

الخميس 2022/07/07
increase حجم الخط decrease
غادر بهرام حاجو وطنه سوريا حين كان له من العمره 20 عامًا فقط. توجه إلى بغداد للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة، ثم انتقل إلى براغ، ومن ثم إلى شرق برلين وغربها، حين كانا منفصلين، قبل أن يستقر في مونستر بألمانيا، حيث تابع دراسته td علم الآثار، التي أكملها في أكاديمية الفنون الجميلية بدوسلدورف بألمانيا. هكذا، يكون حاجو قد لحق بمواطنه مروان قصاب باشي، الذي سبقه إلى ألمانيا، واستطاع، كما مروان، أن يحقق نجاحاً جعله يقف في صف واحد مع كبار الرسامين الألمان، وأن يحظى بتقدير نقاد الفن والجمهور الفني في ذلك البلد. 

يحط الفنان رحاله، هذه الأيام، في غاليري عايدة شرفان ببيروت، علماً أنها ليست المرة الأولى التي يتعرّف فيها جمهورنا على أعماله في شكل مباشر، إذ سبق أن أقيم له معرض في صالة العرض نفسها العام 2012، وسبقه معرض آخر في العام 2010. كما أن حاجو شارك في معارض مختلفة في ألمانيا والمكسيك وفرنسا وسوريا والإمارات العربية المتحدة، وقد كُرّم في ألمانيا، كما عرض أعماله في المملكة المتحدة والمجر ونيويورك، وأماكن أخرى. وفي أعماله هذه، التي نرى بعضاً منها في غاليري عايدة شرفان، يمكن القول إن الشكل الإنساني، كمادة للتعبير عن جوهر دراما حياة الفرد، هو موضوع حصري تقريبًا لدى الفنان.

يروي حاجو في لوحاته، على طول الخط، قصصاً عن الجمال والحب، والتسامح والتلاقي، والقلق، والحرية والعبودية. في كل ما أوردنا، لا بد أن نلحظ الطاقة التعبيرية الكامنة في ما أنتجه، بل أنه جيّر هذه الطاقة إلى أبعد الحدود الممكنة. وفي حين تنضح أعماله بهذه المشاعر التي لا تنطبق على فئة معينة من الخليقة، أو سكان بلد محدد، بل هي ذات أبعاد كونية، فقد استطاع الرسام المهاجر أن يحقق اختراقاً على مستوى إثبات حضوره في المشهد الفني الأوروبي.

تنبغي الإشارة إلى أنّ المقاييس المنضبطة والقاسية، لا تغيب عن ذلك المشهد لحظة، إذ كل شيء محسوب ومدروس، فالنقد الفني هناك لا يوفّر أحداً، من حيث خيره أو شرّه، وقد يكون موضوعياً في أحيان كثيرة، يتجنّب المسايرة والمداهنة التي نشهدها في بعض الأماكن. حتى السوق الأوروبية، والعالمية أيضاً، محكومة بآليات لا مكان فيها للصدفة. رغم ذلك كلّه، استطاع حاجو أن يحجز لنفسه مكاناً لائقاً في المشهد المذكور، وهذا الأمر لم يكن ليتحقق لولا الموهبة والتجارب والمثابرة.

يمكن القول إنّ لوحات بهرام حاجو، تطرح جملة من الأسئلة التي تصعب الإجابة عليها في شكل حاسم ونهائي. أعمال خفية للطبيعة والإنسانية، وقابلة لمختلف ضروب التأويل. مراوحة غامضة بين السعادة والحزن. ومضات عن حب يجمع بين قامتين، حين يشرح الفنان حالة الزوجين، وحذر وريبة تشي به وضعيات قامات متباعدة في أماكن أخرى. انصهار مشاعر عديدة، من دون أن تغرق اللوحة في متاهات الإبهام. يجسّد الفنّان جوانب من حياة الزوجين ورغباتهما المضمرة في أعمال يغلب عليها العُري، وتدور حوادثها في بيئة شبه فارغة. "إن منظري الداخلي هو الذي أقدّمه"، يوضح الفنان في مقابلة مع المجلة الفرنسية المتخصصة في الفن المعاصر Artension. ويضيف: "أطرح على نفسي العديد من الأسئلة، مثل الناظرين إلى لوحاتي... إنها ليست نرجسية، لكنها طريقة للعثور على إجابات من خلال النظر إلى نفسي وإلى شريكي".

يجمع حاجو في لوحاته بين تقاليد التعبيرية الألمانية، وبعض اللمسات الشرقية، لكنها لمسات بعيدة من التجسيد الحرفي لبعض مظاهر هذا الشرق، التي تحوّلت كليشيهات ممجوجة لدى البعض. لمسة بالكاد يمكن تلمّس مفاعيلها. يبقى أن التعبيرية الألمانية المذكورة تبدو الأكثر فاعلية، والأبعد أثراً. إستوعب الفنان تدريجياً الخط التعبيري للحداثة الأوروبية، وحتى ما بعد الحداثة. مفاعيل التعبيرية الألمانية واضحة، وهي التي لم ينجُ منها فنانون أجانب كثر عاشوا على الأرض الألمانية: اللجوء إلى تحوير الشكل الإنساني، التعبير الإيحائي على الوجوه ذات النظرات الثاقبة، والبُعد الشعوري. لكنه، خلافاً لبعض تقاليد التيّار المذكور، يميل إلى اللون الأحادي المونوكرومي، من دون ثرثرة لونية بارزة، وإلى إيراد ظلال تحمل تدرجات الرمادي والبني والأسود، كما يضيء، أحيانًا، بالأحمر أو الأزرق والأخضر أماكن معينة، قد تكون ضئيلة من حيث حجمها وموقعها.

وإذا كان حاجو يرسم أشخاصاً قليلي الملامح، فإن ذاك الإختصار في تحديد الهوية إنما هو سعي إلى رغبة ضحلة، غير مرغوبة، في البوح لدى أبطال اللوحة. هذا النهج ينسحب، أيضاً، على أجسادهم غير المكتملة أحياناً، إلى درجة أقرب إلى التشوّه النسبي المقصود، لكنه تشوّه لا يبعد عن تلك الأجساد قيمتها الإنسانية، بل يمكن القول إنها تصبح كاملة من حيث مكانتها الشعورية وقوّتها التعبيرية. إنحسار الملامح يشير، بحسب البعض، إلى أن الفنان يرسم الغرباء، وهؤلاء الغرباء ليسوا في حاجة إلى ملامح واضحة. لا يتوانى حاجو عن رسم نفسه من ضمن تلك الشخصيّات. أعمال كثيرة لا يمكن إلاّ أن نطلق عليها صفة الأوتوبورتريه فهو، في نهاية الأمر، غريب في البلاد التي احتضنته: "عندما أرسم نفسي في كل لوحة، أرسم تلك الحالة بعدما أصبحت عارياً تماماً من الدفء والأمان والترابط الإنساني، فلا شيء يعوض ما فقدته". بهرام حاجو ليس سوى أحد أفراد تلك المجموعة التي يعيش أحاسيسها وعواطفها ومعاناتها، وعلاقتها مع البشر والمحيط. وفي النهاية ألسنا "كلنا غرباء"؟.. كما تقول الأغنية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها