الأحد 2022/07/31

آخر تحديث: 08:48 (بيروت)

مذكرات شرطي لبناني.. اسبينوزا "اليهودي" وهيفا والتنوع الفوتوغرافي الطائفي

الأحد 2022/07/31
مذكرات شرطي لبناني.. اسبينوزا "اليهودي" وهيفا والتنوع الفوتوغرافي الطائفي
"تتلخّص فلسفة اسبينوزا السياسية بدعوة أكبر عدد من المواطنين للإقدام على مخاطرة التفكير".
increase حجم الخط decrease
إسوة بكل زملائي في ثكنة مرجعيون، كنت أضع داخل خزانتي صورة بالأبيض والأسود لرجل أحبه. 

دنا مرة أحد الزملاء من الخزانة إبّان فتحي لها وسألني: "مِيْنْ هيدا، كمال جنبلاط؟". 
هو رقيب أول مسيحي من بلدة رميش على ما أظن، وكان يضع داخل خزانته صورة للجنرال ميشال عون ومعه شاب تشي ملاحه أنه ولد، عرفنا لاحقاً أنه يدعى جبران باسيل، وكان ثمة صليب بين الرجلين وفوق رأسيهما عبارة "جيش الخلاص". 
"كمال جنبلاط؟!!!"، قلت له وأنا أحدّق في الصورة التي في خزانتي، وثمة تقطيبة قد عقدتْ جبيني، "لاء، قلت له، هيدا فيلسوف هولندي اسمه باروخ سبينوزا". مطّ الرقيب أول شفته السفلى وراح يهرش شعر رأسه، ثم شملني بنظرة عونية وقال: "بَسْ هُوّي درزي، مش هيك؟". قمتُ بصفق باب الخزانة بما أوتيت من قوة وقلت لمحدّثي: "وحياة الرب، روح نام". 
نعم، لست أدري إذا كان ثمة خزانة من كل الخزائن التي تعود لمجمل عناصر ثكنة مرجعيون خالية من صورة ما، فكل من الزملاء في تلك الثكنة كان يزيّن الجهة الداخلية من إحدى درفتَيْ خزانته أقلّه بصورة واحدة. الكمية الكبرى من تلك الصورة في ثكنة مرجعيون كانت تعود لنبيه برّي وموسى الصدر وبشكل رئيس لحسن نصرالله، وثمّة خزائن كان تحوي صور شتى لرجل عجوز علمت لاحقاً أنه يدعى خامنئي، وكان الزملاء من الطائفة الشيعية يقولون قبل التلفظ بإسمه "آية الله"، وبعد نطق اسمه يقولون "أدام الله ظلّه الشريف". خزائن أخرى للزملاء الشيعة كانت تتلحّف بصور أشخاص غير معروفين لولا عبارة "الشهيد القائد" ثم إسم صاحب الصورة... "الشهيد القائد فلان والشهيد القائد فلان الخ الخ الخ... وثمة صور بأشكال عديدة لشيخ يدعى راغب حرب، كانت أيضاً تحتل دواخل خزائن الدركيين من الشيعة. 
زملائي من السنّة كانوا يزيّنون درف خزائنهم بشكل مطلق بصور الشيخ رفيق الحريري، ولم يكن حزب الله قد قتل الرجل بعد: رفيق الحريري مبتسماً، رفيق الحريري متفكّراً، رفيق الحريري معتمراً قبعة من البلاستيك في إحدى ورش البناء، رفيق الحريري يقود جرافة، رفيق الحريري مفتتحاً، رفيق الحريري مع نازك، رفيق الحريري مع بهية، رفيق الحريري مع ملك سعودي ما، رفيق الحريري رافعاً شارة النصر في تجمّع انتخابي في منطقة البسطة، وكنت كلما أرى هذه الصورة الأخيرة، أتذكّر حرج بشامون والشيخين الدرزيين وعقوبتي الأولى في سجن ثكنة الحلو لسبعة أيام.
الزملاء الدروز، أبناء طائفتي، لم يخرجوا عن هذا التراند في ثكنة موجعيون، فكثيرة هي الخزائن الدرزية التي كانت تحوي صوراً لوليد جنبلاط وبَيّه كمال، بيد أن لا خزانة درزية لم تكن تضم صورة للشيخ أبو حسن عارف حلاوي، وهو ولي من أولياء طائفة الموحدين الدروز. كان الزملاء من الجبل ووادي التيم وحاصبيا لا يكفّون عن التكلم عن كراماته وعن تلك المعجزات التي يأتي بها حيال المرضى بشكل خاص، وكل تلك الأحاديث كانت تتم إبّان الجلسات المحض درزية حيث تداوُر قرعة المتّي يكون على قدم وساق. في إحدى تلك الجلسات أخذ واحد من الزملاء يحلف بالخمس حدود كيف أن "رقوة" سيدنا الشيخ أعادت لأحد الكسيحين القدرة على السير "مع إنّو كان مكعّي الحكما". كنت في تلك الفترة أعاني من هرّ الشعر والبدايات الأولى للصلع، فقمت بسؤال زملائي الدروز إذا ما كان سيدنا الشيخ أبو حسن عارف حلاوي يملك علاجاً لهرّ الشعر، فاستشاط أحد هؤلاء وهو من بلدة عين عطا، وقد ظن من باب الخطأ أن ثمة سخرية تداخل سؤالي، فقام بمهاجمتي بسوء الكلام وقال لي: "ولا كإنّك دزري يا زلمي!!". 


... صُوَر، صُوَر، صُوَر!!!
أكثر ما كان يحزنني في هذا السياق زميل ثلاثيني كان دائماً على حرص شديد أن لا يرى الآخرون صورة صغيرة جداً في خزانته تضم سمير جعجع والشيخ بشير الجميّل... "بِشَرَفَكْ ما تحكي لحدا" قال لي، وقد سقطتْ نظراتي عن طريق الصدفة فوق تلك الصورة فعضضتّ شفتي السفلى بما معناه "ولا يهمّك، كأني ما شفتْ شي". 

نادرة هي الخزانة المسيحية التي لم تكن تحوي صورة للمسيح ولأم الربّ أما وجه البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، فكان يطالعني مع كل اختلاس نظر لخزانة هذا الزميل المسيحي أو ذاك، إذ لم يكن الزملاء من الموارنة يخشون إظهار صورة يسوع ومريم ومار نصرالله بطرس صفير، بعكس حالهم مع صور جعجع وبشير بشكل خاص.

لطالما كنت أحترم هذا التنوّع الفوتوغرافي، الذي تحفل به ثكنة مرجعيون، إنما وعلى الرغم من صورة سبينوزا التي كانت تزيّن خزانتي، كنت تراني أقرب إلى أولئك الزملاء الذي قد زيّنوا خزاناتهم بصور لجورج وسوف وهيفا وإليسا أو لفتيات شبه عاريات، لكن أكثر ما كنت أحبّ تلك الصورة التي كان يضعها أحد الزملاء، لمشهد غروب الشمس فوق ملّاحات بلدة أنْفِهْ الشمالية، وهي الصورة التي انتقلتْ إلى خزانتي في التالي من الأيام مع نقل هذا الزميل من ثكنة مرجعيون إلى مركز آخر.

... "لاء مش درزي"، قلت للعوني عن سبينوزا وكان ذلك أول احتكاك لي مع الظاهرة العونية، التي ستجتاح لبنان في التالي من الأيام مثل موجة تسونامي وتقود البلد إلى ما يشبه العصفورية، وكأني بلبنان ينقصه جنون. 

أسلمتُ نفسي لإله سبينوزا وقلت للعوني "إن سبينوزا هو يهودي منشق"..."أووف" قال لي، ثم راح يومىء برأسه وقد أرخى فكّه قليلاً صوب خزانة زميل شيعي يحشد خزانته بصور شتى للخميني والخامنئي وحسن نصرالله وكل الآخرين..."ولَك، لاء، لاء... سبينوزا يهودي بس مَنّو إسرائيلي"... "اصطُفِلْ" قال لي وهو يوليني الظهر يتمتم بشيء ما. 

"... يا سِيْدْنا هيدا فيلسوف مات من شي 400 سنة" قلت لأحد ضباط الثكنة وهو يستجلي صحة الخبر المتداول في كل الثكنة عن صورة، واحد يهودي في خزانة فوزي ذبيان. 
بناءاً لأمر الضابط نزعتُ صورة سبينوزا من داخل خزانتي وفي ذهني تلك العبارة التي وردتْ في فصل بعنوان "كنائس وملل وأحزاب" في الكتاب الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار عن سبينوزا: "تتلخّص فلسفة سبينوزا السياسية بدعوة أكبر عدد من المواطنين للإقدام على مخاطرة التفكير".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها