السبت 2022/07/30

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

محمود وقصته السورية: من الغرق إلى الغوص

السبت 2022/07/30
محمود وقصته السورية: من الغرق إلى الغوص
أنطوان فوترز: "أغلق عينيك يا محمود، فالحياة جميلة، لكنها فارغة"
increase حجم الخط decrease
لا بد من بدء الحديث عن رواية البلجيكي، أنطوان فوترز "محمود أو طوفان المياه" بالإشارة الى عنوانها، الذي جاء الماء فيه على جمعه، أي كمياه، لا كَماء مفرد. ومجيء الماء على هذا النحو يرتبط، وبشكل من الاشكال، بكونه على كثرة في سرد الشخصية الرئيسية لرواية فوترز، اي محمود الماشي الذي يحكي قصته السورية. ففي هذه القصة، التي يصح تقديمها على كونها ملحمية، الماء ليس عنصراً حياً، أو عنصر حياة، انما هو، وبسبب كثرته نفسها، عنصر غرق، أو عنصر طوفان على وجه الدقة.

ربما، وبين قوسين في هذه الجهة، لا مناص من التذكير بكون فوترز قد أهدى كتابه إلى السينمائي عمر أميرالاي، الذي كان قد صنع شريطاً معروفاً بعنوان "طوفان في بلاد البعث"، وهذا الإهداء ليس مجرد تحية الى ذكرى المخرج الراحل، إنما أيضاً، علامة على استيحاء فكرة اساسية، ومائية، من عندياته، ألا وهي: الطوفان بعد هبوط سد الفرات الذي شيده آل الأسد. فقصة محمود هي قصة هذا الطوفان، لكنها بالاضافة إلى ذلك، قصة تدبيره له، محاولته النجاة منه. 

من أجل استخلاص ما يمكن عَدّه صميم هذه القصة بالاستناد الى عنصر الماء، الى استعارته، يمكن القول إن محمود يبغي، وبسرده، أن يحوّل الغرق بعد الطوفان الى ما يشبه الغوص. وهذا الغوص، بالطبع بغيته هي النجاة من الطوفان، من المياه الكثيرة التي غمرت ودمرت بلده الرقاوي، مضاعفةً تدمير سوريا على يد "البعث". لكن، في الوقت نفسه، النجاة ليست نجاة يريدها صاحبها أن تقيه اقتلاعه فحسب، بل نجاة جماعية، بمعنى أن محمود، وبغوصه، يريد إنقاذ بقايا ما حطمه الطوفان. بطريقة اخرى، يريد، وبنجاته، ان ينقذ ما تبقى من سوريا من حكم الأسد. إنها مهمة عويصة، بل تبدو عنواناً لكل الأخطار، الا ان محمود يغوص، وغوصه هنا نوعان.

الأول، فعلي، بمعنى أن محمود يغوص في المياه التي غمرت بلده، فيسبح في ماء لا شيء فيها سوى الحطام. الثاني هو غوص معنوي، إذا صح التعبير، أي أن محمود يغوص، وعلى متن سرده، في ذاكرته، بما هي، وبحسبه وبحسب الروائي، ما تبقى للسوريين بعد تدمير حاضر بلادهم ومستقبلها. فمحمود يغوص في ذكرياته، يجمعها، ينسجها، يحاول أن يحيك كل حكايته، وحكاية عائلته، وبلده، بذكريات، بأحاسيس، بمشاهد، بقصص، سرعان ما تصير هي قارب نجاته. فإذا كان محمود يريد تحويل الغرق إلى غوص، فتذكّره هو سبيله إلى ذلك. بالتأكيد، هذا ما جعل من رواية فوترز رواية بمنحى أقرب إلى الكليشيهاتي، اي أنها احتوت على ما يمكن تسميته "الذاكرة النمطية" السورية، التي تمحي تحتها كل ذاكرات السوريين المختلفة. بالتالي، وبحضورها، بدا أن الذاكرة النمطية توقف سرد محمود، وتجعله جزءاً منها، تبتلعه. محمود، وفي ناحية ما، يتحدّث عن سوريا التي صارت "إعلاناً للموت"، يمكن القول إن تلك الذاكرة ليست منقطعة عن ذلك الإعلان، بل إنها، وعلى منواله، تبدو إعلاناً لكون السوريين لا ذاكرات لهم.

غير أن غوص محمود، الفعلي أو المعنوي، قد أبرز مقلباً مهماً في الرواية، وهي علاقة السرد فيها مع تشكيلها. فالسرد، وبما هو من أثر الغوص، يجمع بقايا العيش، كذلك، تشكيله، الذي حل، وفي الرواية، بشطوره. فقصة محمود "شطرية"، بمعنى أنّ شطورها تساوي بقايا الرواية السورية المدمرة في إثر الطوفان، وبمعنى أن شطورها هي المنسوج من هذه البقايا. فشطرية قصة محمود لا تتعلق بشعريته فحسب، أو بشعرية سارة، زوجته، التي تحب الشعر وتحفظ قصائده، إنما هي تتعلق بكونها قصة من شطور، بما هي بقايا الرواية التي أطاحها الأسد. في هذا السياق، يمكن القول إن قصة محمود هي غوص بعد تلك الرواية وتدميرها، بعد المياه التي انحصرت في الأولى، والمياه الذي طافت بفعل الثاني.

وفي النتيجة، هي قصة لإعادة الماء كعنصر حياة، لا كعنصر غرق. لكن، على الرغم من غوص محمود، فقد وصلت قصته الى ما قالته سارة له: "أغلق عينيك يا محمود، فالحياة جميلة، لكنها فارغة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها