السبت 2022/07/30

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

الهجرة النبوية في خمس منمنمات هندية

السبت 2022/07/30
increase حجم الخط decrease

يحتفل العالم الإسلامي، اليوم السبت، بعيد رأس السنة الهجرية، وهو العيد الذي تُستعاد فيه ذكرى الهجرة النبوية من مكة إلى يثرب بعد العام الثالث عشر للبعثة. وتناقل أهل السيرة، أخبار هذه الهجرة واستفاضوا في نقل أحداثها، وبعد قرون من الزمن، دخلت هذه الواقعة فن الكتاب الإسلامي من خلال العديد من الصور التشكيلية، منها خمس منمنمات من مخطوط فارسي محفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسة، أنجز في الهند الشمالية مطلع القرن التاسع عشر.

يُعرف هذا المخطوط بـ"حملة حيدري"، وهو العنوان الذي يُطلق على المنظومة الشعرية المطوّلة التي وضعها الميرزا محمد رفيع بن محمد المشهدي، الشهير بلقب باذل، وهو رجل دين وشاعر إيراني، وُلد في مدينة مشهد ونشأ فيها، ثم انتقل إلى الهند في زمن السلطنة المُغَلِيَّة واستقرّ في دلهي، وحظي برعاية السلطان أورنكزيب عالم كير الذي ولّاه على مقاطعة كواليار. وبعد وفاة هذا السلطان في 1707، عاد باذل إلى دلهي وأمضى فيها السنوات الأخيرة من عمره، ورحل عن الدنيا في 1712. في هذه الحقبة الأخيرة من حياته، وضع باذل منظومة "حملة حيدري" متّبعاً أسلوب الفردوسي في نظم الشاه نامه، واستعاد في هذه المنظومة الطويلة سيرة الرسول والخلفاء الراشدين، غير أن الموت داهمه قبل أن يكملها، فأتمّها من بعده عدد من الشعراء.

وصلتنا من هذه المنظومة نسخ مزوّقة عديدة، أشهرها نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية أنجزها في 1808 خطّاط يُدعى حسن خان ابن الحيان خان ابن بير سلطان، من قبيلة شاهزفان في وادي كشمير. تُزيّن هذا المخطوط النفيس مجموعة من 241 منمنمة من الحجم الكبير، منها خمس منمنمات تصوّر مراحل هجرة النبي وأصحابه من مكّة إلى يثرب، بسبب ما كانوا يلاقونه من أذى من زعماء قريش، بعد وفاة أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، عم الرسول وكافله وحاميه، ووالد علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين. بحسب الرواية الشهيرة، جاءت هذه الهجرة بعد الرؤيا التي حظي بها الرسول، ونقلها إلى أصحابه قائلاً: "رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي (أي ظني) إلى أنها اليمامة أو هجر (قاعدة في البحرين)، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أنى هززت سيفاً فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحُد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضاً بقرا والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحُد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا بعد يوم بدر".

في غار ثور
تعرّض المسلمون في مكة للإيذاء على أيدي المشركين، ووقع النكال والعذاب بالعديد منهم، فرأى الرسول أنه لا بد من الهجرة إلى بلد آمن، بحيث يتمكن فيه من نشر رسالته الإسلام، من دون الشعور بالخطر اللصيق على حياة أتباعه وأرزاقهم، وأَذِن له الله في الهجرة بعدما تجمعت قريش حول داره تحاول أن تفتك به، كما تشير الآية القرآنية: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" (الأنفال 30). خرج النبي من داره إثر هذه الواقعة، ومضى إلى بيت صاحبه الصديق أبو بكر، فركبا إلى غار ثور، وهو جبل يقع في أسفل مكة، وأنزل الله الأمن عليهما في هذا الغار، فيما كان رجال قريش ينهبون الأرض نهباً بحثاً عنهما، عارضين مائة ناقة لمن يرشدهم إلى الرسول، وأدركوا الغار، ثم ارتدّوا عنه بعدما غشاه العنكبوت وباض الحمام على بابه، كما نقل الرواة في تفسير آية أخرى من القرآن: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا" (التوبة 40).

تجد هذه القصة ترجمتها التشكيلية في المنمنمة التي تحتل الصفحة الأربعين من مخطوط "حملة حيدري". في القسم الأعلى من الصورة، كما في كل منمنمات هذا الكتاب المزوّق، يظهر الرسول رمزيّاً على شكل كتلة مجرّدة من اللهب الذهبي، وهو هنا في وسط غار ثور. يحضر أبو بكر إلى جانبه في هذا الغار، وعلى مقربة من باب هذا المخبأ، نرى شجرة تعلوها بيضتان، كما نرى حمامتين تحلّقان نحو الأعلى. يحتلّ رجال قريش الجزء الأكبر من التأليف، وهم على خيلهم في صفّين متواجهين، يفصل بينهم عدد من المشاة يرفعون أيديهم في حيرة من أمرهم.

ضلّ سعي رجال قريش، وبعد ثلاثة أيام، خرج النبي ورفيقه أبو بكر من الغار، وتوجّها إلى حيث أمرهما الله، وهي الواقعة التي تجسّدها المنمنمة التي تحتل ظهر الصفحة الخمسين. في القسم الأعلى، يظهر راعٍ يجلس أرضاً وسط قطيع من الغنم، ويظهر أمام هذا القطيع الرسول على ناقته، ومن خلفه أبو بكر على ناقة أخرى، كما يظهر خلفهما رجل يتبعهما متعثراً على جواده، وهو بحسب الرواية سراقة بن جعثم الذي لحق بهما، وظنّ أنه سينجح في القبض عليهما، غير أن فرسه عثرت، فخرّ عنها. في الجزء الأوسط، يظهر الرسول مرة أخرى على ناقته وسط حشد من أتباعه، وتظهر في الجزء الأسفل امرأة ترعى شاة، وهي بحسب الرواية المتداولة امرأة من خزاعة تُدعى أم معبد، اشتهرت بكرمها وحفاوتها بالمسافرين الذين يتوقفون للاستراحة عند خيمتها، وقد وصل الركب عندها فسألها النبي إن كان عندها شيء من طعام، فقالت: "لو كان عندي شيء لأحضرته لكم". رأى الرسول في ركن من الخيمة شاة، فمسح بيده على ضرعها وسمّى الله ودعا، ثم جاء بإناء فحلب فيه حتى علته الرغوة، فشرب منه، ثم حلب الشاة مرة ثانية، فامتلأ الإناء، فشرب منه أصحابه وارتووا، وعاد وحلبها للمرة الثالثة، وترك الإناء لأم معبد، قبل أن يرتحل مع أصحابه.

في الطريق إلى يثرب
في الصفحة الثانية والخمسين من المخطوط، نقع على منمنمة تمثل فصلاً آخر من فصول هذه الهجرة، حيث يظهر الرسول في وسط القسم الأعلى من الصورة، ويظهر من حوله حشد كبير الرجال احتلوا الجزء الأكبر من التأليف. بحسب الرواية، بينما كان النبي متوجهاً إلى يثرب، التقى به في الطريق بريدة الأسلمي، وكان رئيس قومه، وقد خرج يبحث عن الرسول طمعاً في الحصول على الجائزة التي رصدتها قريش لمن يقبض عليه، غير أنه حين مثُل أمام النبي، واستمع إلى كلامه، أسلم مع سبعين رجلاً من قومه وناصره.

نصل إلى المنمنمة الرابعة، وهي المنمنمة التي تحتل ظهر الصفحة الثالثة والخمسين، وتمثّل وصول الرسول إلى قرية قباء، جنوبي يثرب، حيث احتشدت عامة الناس لاستقباله. أمام ناقة الرسول، يظهر جواد تعلوه كتلة أخرى من النار المذهّب تمثّل هنا علي بن ابي طالب الذي وصل بحسب السيرة إلى ذلك المكان وقدم إلى الرسول، بعدما مكث في مكة أياماً، بناء على طلب من النبي، وذلك لكي يؤدّي الأمانات إلى أهلها.

تكتمل هذه السلسلة مع المنمنمة الخامسة التي تحتلّ الصفحة الخامسة والخمسين، وتصوّر الفصل الأخير من الهجرة النبوية. من قباء، وصل الرسول على ناقته إلى ديار بني سالم في طريقه نحو المدينة، وأدركته الجُمعة، فأدّى الصلاة مع مئة شخص، فكانت أول جُمعة في الإسلام. ثم قدم مع صحبه يثرب، وسار إلى جوف المدينة بين حفاوة المهاجرين والأنصار.

مرة أخرى يتكرّر التأليف الذي اعتمده الرسّام في تصوير غالبية هذه المنمنمات. في القسم الأعلى من الصورة، يظهر الرسول على ناقته وسط كوكبة من الفرسان الممتطية خيلها، بينما تظهر في القسم الأسفل كوكبة أخرى من الرجال المشاة المصطفّين وقوفاً على أقدامهم في حضرته بإجلال وإكرام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها