الأحد 2022/07/03

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

"عَ أمل تجي" لجورج بربري..الرجولة كأداء بائس في البترون

الأحد 2022/07/03
increase حجم الخط decrease

 كلّ ما في فيلم "عَ أمل تجي"(*) للمخرج اللبناني الأرجنتيني جورج بيتر بربري (1992)، يشهد بأنه الباكورة الإخراجية لصاحبه: نصّه الافتتاحي المقتبس من جبران خليل جبران، روح الهواية في صناعته والاستعانة بممثلين يقفون أمام الكاميرا لأول مرة، سوء الكاستينغ أحياناً، طزاجة حكايته وألفتها، حركة الكاميرا اللافتة في لقطات طويلة مهندسة وارتجالية في آنٍ، اللعب مع أكثر من جانب للسرد، الخِفّة البادية في مقاربة مواضيع ثقيلة ومستهلَكة، ونبرة الكوميديا الساخرة - والسوداوية في الوقت ذاته - المؤطرة حكاية حزينة وبائسة عن النضوج والعبور إلى أرض الرجال. غير أنه باكورة تؤشّر على صوت سينمائي يستحق الانتباه لأعماله القادمة.

لقد حان اليوم الموعود لإتيان (إتيان عسل) وأصدقائه. بقيادة عدنان (عدنان خبّاز)، وبصحبة صديقيه الآخرين جان بول (جان بول فرنجية) ودنكورة (إلياس سعد)، سيأخذ الأربعة طريقهم عبر قضاء البترون (حيث نشأ المخرج) شمالي لبنان لممارسة الجنس لأول مرة في حياتهم، مع بائعة هوى (بلكنة سورية، للأسف) يجهلونها تنتظرهم في فندق رخيص. الطريق إلى هناك - إلى "أن تصبح رجلاً"، على حدّ تعبير أحدهم - طويلة، ولذا، في الأثناء نتّعرف تدريجياً على الشبان الأربعة. يتفاخرون بفحولتهم، يمزحون، يجادلون، يتقاتلون، يشربون البيرة، ويطلقون نكاتاً معادية وساخرة من المثليين. باختصار، يُظهرون رجولتهم للعالم وللآخر، أو ما يعتقدون أنه الرجولة، وذلك بمساعدة مخزونهم من حكايات وتعاليم الآباء والإخوة وسيناريوهات الأفلام الإباحية والاسقاطات الاجتماعية.

ينظر بربري في ما وراء هذه الواجهة الأدائية في فيلمه الأول، وينجح في إنجاز فيلم حزين وشاعري عبر خلق اختلافات واضحة بين الشخصيات على الرغم من كل أوجه التشابه بينهما. يتسامح إتيان الخجول مع فظاظة أصدقائه الخائضين أوقاتهم باندفاع الشباب والمدفوعين بهرموناتهم وتأّخر تحققهم الجنسي، ولكنه - مثل دنكورة - يكون في الغالب مراقباً صامتاً وليس فاعلاً. يتفاخر عدنان بصوت عالٍ بتجربته الجنسية اليتيمة (لم تزد عن يومٍ واحد)، غير أن جانبه الداعم واللطيف يظهر دائماً من تحت كل هذا التباهي. من ناحية أخرى، يتكشَّف طالب القانون جان بول ذكورياً متعصّباً بمعايير مزدوجة تصبّ لصالح امتيازاته كذكر: عندما يسأله أحد رفاقه عن سبب عدم نومه مع حبيته التي يواعدها منذ عام ونصف، يجيبه بسخط: "مع حبيتي؟ هل أنت مجنون؟ لو فعلت ذلك، لما تزوّجتها، لأنها لن تكون عذراء!". "ولكنك ستفعل ذلك (ممارسة الجنس) قبل الزواج؟" يعارضه صديقه. "نعم، لكن هذا أمر آخر تماماً"، يشرح جان بول.

الحيلة الأساسية التي يستخدمها بربري لاختراق ما تحت السطح هي التعليق الصوتي الشامل: بطول الفيلم، تخبرنا العديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية بما سيحدث لهم لاحقاً بالتفصيل، كيف يكون موتهم، أي مهنة أو وظيفة سيصرفون فيها سنوات عملهم، أي من أحلامهم سيتحطّم، وكيف سيختبرون لحظات سعادتهم. وفيما تنظر الكاميرا إلى وجوههم، في البحر أو وسط المناظر الطبيعية المشمسة، نعرف في مونولوغات/اسكتشات موجزة الكثير عن مستقبلهم، وكل الأشياء التي تشغلهم حالياً ولا يجرؤون على إسماعها للآخرين: الشعور بالوحدة، الخوف من الفشل، أو القلق من اكتشاف المثلية الجنسية المكبوتة أو الطفولة العنيفة والصادمة لأحدهم. هذه الأداة الأسلوبية، الأدبية أكثر من كونها سينمائية، بالرغم من فعاليتها، تفقد جاذبيتها بعد فترة مع توالي تكرارها، لذلك يعلق الجزء الأوسط قليلاً ويصير ممطوطاً بعض الشيء.


ولكن بعد ذلك يصل الأربعة أخيراً إلى مكان الاجتماع المتفق عليه، ونتابع إتيان إلى غرفة بائعة الهوى، وفي عقله أيضاً. وفجأة يصبح وحيداً مع أفكاره، وخيالاته عن الحياة الجنسية الوليدة بالأساس من فرجته على الأفلام الإباحية، والمرأة الغريبة التي تعطيه تعليمات هادئة وجافة: اغتسل هناك، استلق هنا، لا تقبّل، لا تحضن. تصبح مرّته الأولى التي لن ينساها على الأرجح، لأسباب غير التي دخل بها. نهج بربري لاستكشاف الذكورة السامة وصور النساء المتأرجحات بين أقاصي وحدود نموذجي "الأم والعاهرة" قد لا يكون مبتكراً كفاية، لكن بشكل خاص، آخر ربع ساعة من الفيلم، الذي يفقد فيه البطل براءته من نواحٍ عديدة، يثير الإعجاب بواحدة من أقوى المشاهد الجنسية وأكثرها كآبة.


على مستوى الحكاية المبدئي، تذكّر قصة الفيلم كثيراً بالفيلم المصري "فيلم ثقافي" (2000، محمد أمين) وحكايته عن ثلاثة شباب من الطبقة المتوسطة أنهوا لتوّهم دراستهم الجامعية، تثقلهم الرغبة في إطفاء جوعهم الجنسي المكبوت وصعوبة التحقق الوظيفي والوفاء بالتوقعات الاجتماعية؛ يقع في يدهم شريط إباحي ومن ثمّ يوجّهون طاقاتهم طوال الفيلم في سبيل مشاهدته. بعد أكثر من 20 عاماً، لا تزال الهواجس والصعوبات متشابهة في لبنان، الأكثر انفتاحاً (على الأقل في مخيلة أغلب المصريين). لكن أكثر ما يمايز الفيلم اللبناني عن سلفه المصري - فضلاً عن اهتمامه بتفكيك الذكورية في سياق مطبوع بنزعة محافظة - هو لعب صانعه مع الأساليب السردية السينمائية، بانتقال الكاميرا والصوت بين الشخصيات الرئيسية والثانوية، وإبراز أفكارها الداخلية غير المنضبطة حول الحياة والموت، بشكل يعيد للبال الخطوط العريضة لفيلم "أفكّر في إنهاء الأمور" (2020، تشارلي كوفمان) وقلقه الوجودي الذي يطبع كامل حكايته.

هذا المزيج يولّد فيلم نضوج عاطفياً وناقداً، خفيفاً وفلسفياً، كوميدياً وميلانكولياً، يأتي كترجمة سينمائية جميلة لعبارة "وجوه نراها، قلوبٌ لا نعرفها"، فعاليته تظهر في حثّه مُشاهده على الضحك بصوت عالٍ وفي الوقت ذاته التفكير وطرح السؤال عمّا يعيش لأجله وما ينتويه لبقية حياته.


(*) عُرض الفيلم مؤخراً في القاهرة ضمن فعاليات "أيام القاهرة السينمائية".

شارك في العديد من المهرجانات العربية والعالمية، أبرزها مهرجان برلين السينمائي في قسم "بانوراما" بدورته الـ71 العام الماضي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها