الخميس 2022/07/28

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

أطلال "مسرح المدينة".. وأطلال بيروت

الخميس 2022/07/28
أطلال "مسرح المدينة".. وأطلال بيروت
"مسرح المدينة" في السارولا
increase حجم الخط decrease
لم أكن أريد الكتابة أو التعليق على تقديم مجالس حسينية عاشورائية في مسرح المدينة، لحساسية ما في الزمن الرديء. لكن كلام صاحبة المسرح، المخرجة نضال الأشقر، وتبريراتها لاستضافة مجلس العزاء، وقولها أنها "لا تستطيع رفض طلب أحد"، وهي التي استقبلت سابقاً أو قمات بتأجير المسرح لكل التيارات والاتجاهات، القومية والكردية والأرمنية والشيوعية والأحباشية (نسبة إلى الأحباش)، والآن الخمينية، جعلها تبدو وكأنها تقول -أو تختصر الحديث بالقول- إن مسرح المدينة هو "صالة للإيجار" قبل أي شيء. وهذا في الواقع، يتناقض مع كلام الأشقر نفسها التي لطالما اعتبرت المسرح "فضاءً"، مع ما تعنيه كلمة فضاء وعلاقتها بالثقافة والمكان، وبيروت تحديداً.

إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، نتذكّر أنّ واجهة بيروت الثقافية، بعد اتفاق الطائف وانتهاء الحرب أو توقفها الملتبس، كانت تقوم على مسرحَين وأكثر: "مسرح بيروت" في عين المريسة، و"مسرح المدينة" في كليمنصو...

"مسرح بيروت" تحوّل أطلالاً وخراباً بعدما كان شاهداً على مرحلة الستينيات "الذهبية" التي شكّلت ولادة المسرح اللبناني الحديث، وقد طبع المدينة بدوره، من خلال ما احتضنه من أعمال إبداعيّة، وتجارب مسرحية طليعيّة (من تونس ومصر وسوريا والعراق...)، ومبادرات فكريّة وثقافيّة وسياسيّة، خلال حيواته المتعاقبة بين 1965 تاريخ إنشائه، و2005 تاريخ إقفاله. شكل "مسرح بيروت" وفضاؤه، علامة للسجال حول المكان العام والذاكرة، وهو يقع في مبنى آيل الى الهدم مستقبلاً، وقدّم أبرز المسرحيات العربية واللبنانية خلال التسعينيات، وسعت إدارته الى استعماله كفضاء للحرية يشبه بيروت نفسها، سواء ضد الرقابة السلطوية ومع تنظيم بعض الأنشطة المدنية. فتحوّل في مرحلة، منصّةً لنشاط حملة "بلدي بلدتي بلديتي" من أجل خوض معركة نموذجية في انتخابات بلدية أُجريت بعد مرحلة انقطاع طويلة، ولم تكن الحملة في منأى عن مطاردات ومضايقات وزير الداخلية آنذاك، الراحل ميشال المر(الجَدّ) ومعه النظام الأمني.

وكذلك، لم يكن "مسرح بيروت" في منأى عن تهديدات الممناعين القومجيين، العام 1998، تاريخ الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين. فكانت مجموعة من المثقفين اللبنانيين، بينهم الياس خوري وسمير قصير، قد نظّمت نشاطات متفرّقة متعلِقة بالنكبة ودعت إليها مثقفين عرب-اليهود معروفين بعدائهم للصهيونية ودولة إسرائيل، إلاَ أنّ بعض الأحزاب الممانعة في لبنان، ومن ضمنها الحزب السوري القومي الاجتماعي، هدد إدارة المسرح وشنّ حملة على أبرز منظمي النشاطات، الروائي الياس خوري، ما اضطر إدارة المسرح إلى إلغاء النشاط.

ولاحقاً، أقفل المسرح وتحوّل مجرد أطلال. ورؤية الأطلال، بحسب الانثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه، "تجعلنا بسرعة نستشعر زمناً غير ذاك الذي تكلمت عنه كتبُ التاريخ أو ذاك الذي تحاول عمليات الترميم أن تحييه. إنه زمن خالص عصيّ على التأريخ، وغائب عن عالمنا الطافح بالصور والمُخايلات والتشكيلات المجددة، عن عالمنا العنيف الذي لا يتسع الوقت فيه للأنقاض كي تصبح أطلالاً. إنه زمن ضائع يسعى الفن إلى أن يعثر عليه"... و"ما يجعل المكان أطلالاً هو قيمة الزمن الذي تتم استعادته وتذكره".

أما "مسرح المدينة"، فافتتح أيضاً في العام 1994، واعتُبر افتتاحه في منطقة كليمنصو يومها، مكان "سينما كليمنصو"، دلالة رمزية عل عودة الحياة والاستقرار إلى لبنان. كانت تموّله لمرحلة جهات حريرية (نسبة إلى رفيق الحريري) أو سلطوية أو مصرفية، وقدّم مسرحيات عربية ولبنانية وأنشطة غنائية وتشكيلية وحتى فنّيّة رمضانية. ومن نشاطاته البارزة استضافة "عرس الزواج المدني"، والذي ضم مجموعة من المتزوجين مدنياً الذين احتفلوا بزواجهم حينما كان جهابذة الطوائف، وما زالوا، يشنون الحملات الشعوائية والغوغائية على هذا الزواج بسبب أو من دون سبب. وسرعان ما أقفل المسرح، وانتقل الى الحمرا في بناية سارولا، ولا ضرورة الآن لتقييم برنامجه بشكل شامل في السنوات الأخيرة... لكن ما يمكن قوله، إنه رغم، استمرار المسرح في تقديم العروض المميزة والفاعلة في بعض المناسبات، ورغم تلقيه جرعات أوكسجين من وقت إلى آخر في الزمن الصعب، لكنه في وجدان الكثيرين من المهتمين بالثقافة، يبدو "مسرح المدينة" أيضاً أطلالاً في شارع أطلال في مدينة أطلال.

واقع المسرح متعثر ويشبه حال البلد، يستضيف أنشطةً من وقت إلى آخر، لكنه يفتقر الى "النبض" الثقافي الحقيقي، وهذا في جزء منه يعود إلى أزمة البلد السياسية التي تطورت تدريجياً منذ العام 2005، وهو الآن يستضيف نشاطاً (مجلس عزاء) عادة ما يقدم في أمكنة دينية وفي إطار متصل بالسياسة والسلطة أيضاً، وهذا جعل الكثيرين يسألون عن الغاية من تقديم هذا النشاط في هذا المكان (الثقافي العلماني) بالذات؟ هل "حزب الله" فعلاً بحاجة الى أمكنة إضافية لتقديم مجالس حسينية؟ أم أن النشاط المقدم من ضمن ثقافة الاستهلاك وبيع البطاقات والمردود المادي؟ هل يحتمل "حزب الله" تقديم مسرحية حداثوية في مناطق هيمنته؟ فقد سبق أن منع مؤيدوه أغاني فيروز في الجامعة اللبنانية، ولم يسمح ببث أغنية جوليا بطرس في إعلامه مع أنها تمجد "مقاومته".

من دون شك، المناسبة الكربلائية التي تنسبها نضال الأشقر الى "التراث"، ليست بعيدة من الثقافة والفن التشكيلي والمسرح والشِّعر. كثرٌ وظفوا رمزية الواقعة الكربلائية والحسينية في نصوصهم وعروضهم بطريقة ثقافية حداثية. وحتى في ذكرى عاشوراء التي تحييها مدينة النبطية في جنوب لبنان، اعتاد ممثلون أو مخرجون المشاركة في تمثيل أدوار أو إخراج عروض. لكن ما سيُقدم في "مسرح المدينة"، ليس مسرَحَة للذكرى التاريخية، بل هو مجلس عزاء...

في المختصر، حال "مسرح المدينة" هو حال معرض بيروت للكتاب في دورته الأخيرة، وحال شارع الحمراء وحال بيروت وحال الثقافة الرسمية وحال النظام. فنحن في بلد ينزلق بسرعة نحو الترهل والتحلّل ويحتاج إعادة تكوين، يحتاج مشروعاً جديداً للنهوض من جديد...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها