الأربعاء 2022/07/27

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

أحمد عبد اللطيف لـ"المدن":أعمالي كلها محاولة لمحاكاة حالة الحلم

الأربعاء 2022/07/27
أحمد عبد اللطيف لـ"المدن":أعمالي كلها محاولة لمحاكاة حالة الحلم
"طموحي أن أكتب أعمالًا على غير نموذج مسبق وأن يميزها القارئ قبل أن يقرأ اسمي"
increase حجم الخط decrease
كل عمل جديد لأحمد عبد اللطيف بمثابة مغامرة، إما على مستوى الموضوع، أو حتى على مستوى اللغة نفسها التي يجددها ويطورها ويعيد اكتشافها. في أحدث مغامراته الروائية، "عصور دانيال في مدينة الخيوط"، يروى قصة مدينة ملعونة، غارقة في الظلام نتيجة طوفان مطر لا يتوقف. سكانها مجموعة من الدمى، تسير إلى مصير محتوم بلا قدرة على تحديد القِبلة ولا تغيير الاتجاه، ورغم ذلك يظنون أنهم مَن اختاروا الطريق وحددوا القِبلة. وتحت أرضها، مدينة أخرى تشاهد المدينة العلوية وتسخر منها وتسجل كل ما يجري فيها، أرشيفها مركز تحريك الخيوط الذي يتحكّم بالدمي، فيجعلها تحب وتكره، تظلم وتسامح، وتتصارع على مصير تتوهم أنها وحدها تتحكم فيه.

نتجول في مدينة الخيوط بصحبة دانيال، الذي وجد نفسه بمحض الصدفة في قلب أرشيف المدينة السري، يتعثر هناك في قصته التي كتبها دانيال آخر مثله تماماً، تتشابه القصص وتتشابك الخيوط، التي تسجل جميعها رحلة دانيال لكشف سر المدينة وتخليصها من الضباع التي تتحكم فيها، وليضع في النهاية قصته في الأرشيف نفسه الذي يسجل حكايته ليخلف وراءه سجلاً وتقريراً عن زمن عاشه "لم أتطلع من خلاله أن أكون مقريزي زماني وإنما مجرد دانيال من ضمن دانيالات متعددة تتنازع بداخلي"، آملاً أن يلتقط القصة/الطعم قارئ آخر فيبدأ من جديد رحلة تطهير المدينة من وحوشها.

أحمد عبد اللطيف روائي ومترجم وصحافي مصري، صدرت له روايات "صانع المفاتيح"، "عالم المندل"، "كتاب النحات"، "إلياس"، "حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية"، "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج"، ومجموعة قصصية واحدة هي "مملكة مارك زوكربيرج وطيوره الخرافية". حصل على جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة ساويرس في الرواية، ووصل إلى اللائحة الطويلة لجائزة بوكر العربية، وفاز بجائزة المركز القومي للترجمة. هنا حوار معه:

- الحقيقة أن سؤال اللغة لا يصبح سؤالا تقليدياً حينما يوجه إليك تحديداً. فللغة في أعمالك طموح أكبر من مجرد تشكيل عالم أو التعبير عن بطل، اللغة لديك تطمح أن تكون هي نفسها العالم والبطل. إلى أي حد تصح هذه الرؤية؟

* ربما أتفق معك جزئيًا في ذلك، فالتطلع إلى نحت لغة سردية جديدة شاغل فني وجمالي لا أتوقف عن الاستسلام له قبل الشروع في أي عمل، ربما يأتي ذلك من تصوري أن لكل زمن لغته، وأننا في زمن مليء بالتوتر والقلق، فلا تناسبه اللغة الستينية. لكني أعترف لك أن الكاتب لغته، وكاتب بلا لغةٍ تخصه، كاتب بائس. لكني في الوقت نفسه لا أميل إلى نحت لغة دخيلة على السياق السردي، بمعنى أن الموازنة بين الحكاية والشخصية من ناحية، مع اللغة الساردة وصوت الراوي من ناحية أخرى، يعني لي الانسجام، انسجام بين عناصر العمل، ما يحقق في رأيي الصدق الفني، وهو هدف أي روائي.

- لدي أسئلة عديدة في السياق نفسه: هل يمكن أن نبالغ ونقول إن اختيار التجريب في اللغة قد يسبق فكرة العمل نفسه أو يجاورها على الأقل. أم أن طبيعة العمل هي التي تستدعى لغته وشكله؟ الاستغناء عن علامات الترقيم مثلاً، طريقة استخدمتها في مجموعتك السابقة، وتكررها في الرواية الجديدة. ما الأثر الفني الذي تبحث عنه وراء ذلك؟ وإذا اتخذنا من الرواية الأخيرة مثالاً، فمتى فكرت فيها وكيف تطورت وكيف حددت طريقة كتابتها؟

* في ترتيب ظهور العمل في ذهني تأتي صورة الشخصية قبل أي شيء، ثم تتكوّن الحكاية بالتدريج، بعدها تأتي اللغة. الاستثناء الوحيد كان في رواية "إلياس"، إذ جاء البطل بلغته وحكى لي حكايته، بلغته المتوترة والمتلعثمة. في "مملكة مارك" و"عصور دانيال" اللغة جاءت بعد تكوين العالم السردي في خيالي، وقبل الشروع في الكتابة، إذ عادةً ما أكتب بعد أن يتجلى لي هذا العالم وأفهم شخصياتي نسبيًا. مع العبارة الأولى، جاءتني اللغة سيالة ومنداحة فكنتُ مجرد DJ أحاول تنسيق الموسيقى. أما علامات الترقيم، فلم تكن متنًا في اللغة العربية قبل القرن العشرين، واستعارتها العربية من اللغات الأجنبية لتنظيم النفس أثناء القراءة وتسهيل فهم النصوص، لكني أرى أنها تعيق القراءة، خصوصاً في النص السردي، وأنها تحتاج إلى إعادة التوزيع والاستخدام من أجل صنع إيقاع سردي يناسب الحكاية والشخصية. أوضح أن اللعب في هذه المنطقة يضيف للسرد كثيرًا، ففي "إلياس" استخدمت النقطة فقط واستغنيت عن المفعول به وأدوات الملكية وأدوات الوصل، بهذه الطريقة بدت اللغة مختلفة وجديدة وعبّرت عن حكاية إلياس. في "عصور دانيال" كانت ثمة محاكاة للصوت الشفاهي، لصوت التفكير نفسه الذي لا يعرف علامات الترقيم، لهذا المونولوج الذي يدور في ذهن الراوي المهزوم. هذا الراوي، بطريقة ما، يتلاقى مع راوي الجزء الأول في مجموعة "مملكة مارك"، ليس فقط في اللغة، وإنما في الصراع والأزمة. ما الذي أريده على المستوى الفني؟ أن أكتب صوتي الداخلي، أن أقبض على توتري الشخصي، أن أنقل مراقبتي لأفكاري/مراقبة الراوي لأفكاره وحركة ذهنه في النص السردي، وأن أهرب من الإيقاع البطيء الذي لا يناسب شخصية تصارع في مدينة مثل القاهرة.

- وكيف ترى استقبال القراء لأفكارك أو مغامراتك في اللغة؟ وأين يكون موقع القارئ وقت اختيار طريقة الكتابة؟

* أظن أن على الكاتب أن يكتب وعلى القارئ أن يقرأ، فلا ينشغل الكاتب بالقارئ أثناء الكتابة، ولا يفرض القارئ شروطًا مسبقة على العمل الذي يقرأه. وأنا كقارئ قبل أن أكون كاتبًا، أتأمل ما يكتبه الكاتب وأميل للكتّاب المُجدّدين. أحبّ أن أشعر كقارئ أن الكاتب اعتنى بتفاصيل عمله وعناصره، أنه سعى ليقول شيئًا جديدًا أو بطريقة جديدة، من دون أن يميل للكسل والنماذج المعدة سلفًا. ومن منظوري ككاتب، أحترم القارئ وذكاءه وأحبّ أن أشاركه حكاية وسؤالًا. والحقيقة أني كنت سعيد الحظ لأني وجدت قرّاء ونقادًا اهتموا بتجربتي السردية وكتبوا عنها كثيرًا، سواء مقالات أو دراسات موسعة، ومع ذلك سمعت تعليقات مثل "لغة غريبة"، "ما الفائدة من هذه اللغة". أفكر أيضًا في التعليقات السلبية وأفكر أن الإجماع على نص، مستحيل، خصوصاً النص الأدبي. ربما رهاني أن تمد هذه اللغة الآن أو في المستقبل جسر تواصل مع قارئ طموح لا يبحث عن السهل والمكرر.

- السؤال عن استقبال القارئ يجرنا أيضا للحديث عن النقد. كيف ترى الاستقبال النقدي للتجريب في أعمالك؟ وهل أنت راض عن الاستقبال النقدي لأعمالك بشكل عام؟

* بشكل عام، لقيت أعمالي الترحيب النقدي، سواء على المستوى الصحافي أو الأكاديمي، ورغم أن ذلك يسعد أي كاتب، لكني أوضح أنها مسألة تالية لمرحلة الكتابة والنشر. أثناء الكتابة لا يشغلني إلا الكتابة، الأسئلة الفنية، فهم شخصياتي، بناء العمل، اللغة المناسبة للحكاية. بعد النشر أحاول متابعة ردود الأفعال من النقاد والقراء، وأسعد بردود الأفعال الطيبة، وأفكر في الردود السلبية، لكني سريعًا، وحالما أبدأ في عمل جديد، أنسى الردود السابقة وأنهمك في العمل.

- يصنف النقاد أعمالك الأخيرة كـ"ديستوبيا"، هل تتفق مع هذه الرؤية؟ وهل أنت مهتم بمسألة التصنيف؟

* أعتقد أن التصنيف مهمة الناقد لأنه يسعى لتقسيم الكتاب إلى أنواع وتيارات، أما الكاتب فلديه أسئلة أخرى. لكن بما أنك طرحت السؤال، فكل أعمالي، بدءاً من "صانع المفاتيح" (2010)، طرحت صورة المدينة الفاسدة وتحولاتها ومستقبلها، فمدينة "صانع المفاتيح" صارت صماء بكماء عمياء، ومدينة "عالم المندل" صار نساؤها رجالًا والعكس، ومدينة "سيقان تعرف" تحولت إلى قبو تحت الأرض. هذه العوالم الكابوسية، التي يسمونها ديستوبيا، جزء أصيل من رؤيتي للعالم ومخاوفي منه، وسواسي الداخلي الذي يتخيل عوالم موازية.

- ابتعدتَ عن تناول الثورة في الأعمال التي تلت اندلاعها مباشرة، لكن بعدما ظهرت في "سيقان تعرف" أصبحت هاجساً يتكرر في كل الأعمال بأشكال متعددة ومختلفة.. ما الذي حدث؟

* مآلات ثورة/حرب/حرب أهلية لا يجب أن تظهر فحسب في صورة مباشرة في العمل الأدبي، وإنما في محاولة فهم البانوراما العامة ثم إعادة إنتاجها فنيًا. فرواية الثورة ليست التي تحكي عن الميدان والـ18 يوماً بطريقة سطحية وتوثيقية، وإنما أثر ذلك في الفرد. في "كتاب النحات" (2013) الثورة كانت حاضرة، لا كأحداث تجرى، وإنما كتصوّر عن صراعها ومرساها الأخير. "إلياس" (2014) طرحت سؤال الهوية الضائعة، ولم يكن ذلك بمنأى عن سؤال الثورة نفسه. ما أقصده أن ثورة يناير كانت السياق السياسي والسوسيوثقافي الذي أنتجت فيه هذه الأعمال، وتسربها يبدو طبيعيًا، غير أن سؤالي هو كيف يمكن تحويل الحدث إلى فن، ورؤية ما خلفه وليس تسجيله. ربما في الأعمال الأخيرة، ثمة إشارة أو تلميح مفهوم للثورة، لكن ما يعنيني هو الفن، لأن الرواية فن وليست بحثًا اجتماعيًا.

- سألتك من قبل إن كان اختيار أهل المدينة في "سيقان تعرف" للاختفاء الاختياري، عوضاً عن الاختفاء القسري، نوعاً من الإقرار بالهزيمة، وقلتَ إنها مناورة. فكيف تصف استسلام الدمى للخيوط التي تحركها، واكتشاف الـ"دانيالات والأصفار الأخرى" في الأرشيف السرى رغم محاولته التطهيرية؟ أليس في هذا أيضاً إقرار بالهزيمة؟

* لكن الإقرار بالهزيمة لا يعني الاستسلام. والاستسلام لا يعني أنه مُطلَق وأبدي. فلسفة "سيقان تعرف" و"عصور دانيال" تقوم على رسم خريطة للواقع لفهم أبعاده ومشاهدة أنفسنا داخل هذه الخريطة. هذه المشاهدة تطرح علينا سؤالًا حول أنفسنا والعالم المحيط بنا، وربما تفكيك العقود الأخيرة في التاريخ المصري. لا أريد هنا الهروب من الإقرار بالهزيمة، فالثورة هُزِمت ومطالب الحرية عادت بقمع أكبر. المسألة أنّ "سيقان تعرف" تنحو لرسم الحاضر/المستقبل، فيما "عصور دانيال" تعالج الماضي/الحاضر.

- الأرشيف السري، وصفعة الأب، ومعزوفة رومانس لارجيتو، إشارات ومَشاهد تتكرر في العملين الأخيرين، هل كان ذلك مقصوداً؟ أم أنها تسيطر على ذهنك وتظهر في الأعمال من دون ترتيب مسبق؟

* يراودني أحيانًا ربط أعمالي، بعضها ببعض، بشكل مباشر، وأتراجع عن الفكرة. ما لا أتراجع عنه ربما، ترك أثراً من عمل في عمل آخر. هذه الغواية أستسلم لها ولا أشعر بتأنيب ضمير، وأقول لنفسي هذه الشخصيات تعرف بعضها بعضاً، إنهم أبناء المدينة نفسها والزمن نفسه، ولا غضاضة في أن يعيشوا تجربة مشابهة. 

- المعزوفة تصبح خلفية للعمل بالكامل، ويضيء فيلم sleepers الكثير من جوانبه، وهي ليست المرة الأولى التي تستعين فيها بفنون أخرى. ألا تخشى أن يؤثر عدم اطلاع القارئ على تلك الأعمال، في استقباله لعملك، وعلى أي أساس تختارها؟ 

* ربما من مزايا فن الرواية الكبرى، استيعابه للفنون الأخرى، قدرته على هضمها من دون أن تشعر بالثقل. أنا أيضًا من محبي السينما والموسيقى، وأرى أن تطعيم السرد بهذين الفنّين يُثري الرواية ويفتح أفقًا للرؤية والسماع، بالإضافة للقراءة. وأظن أن ثمة طرقاً مختلفة للسرد، من بينها المُشاهدة والتأثر بأجواء الموسيقى. أظن أيضًا أن الرواية ليست نصًا مغلقًا، بل منفتحاً على الفنون الأخرى، ويجب أن يحمل بُعدًا معرفيًا يضيف للقارئ، فالفيلم الذي لا تعرفه ستبحث عنه وترى تقاطعاته مع الرواية، والموسيقى تمنح حالة شعورية تناسب حالة البطل، وربما تحكي حكايته.

- يظهر الحلم كثيراً في أعمالك، مفسراً وشارحاً ومستشرفاً.. ما الذى يمثله لك؟

* أنا غزير الأحلام منذ طفولتي، وبوسع الحلم أن يكدر مزاجي ويشغلني بقدر ما يطمئني أو يدفعني للتأمل. والحلم بالنسبة لي، عمل فني مكتمل، بما فيه من حدث وشخصية ومتاهة وغموض ورموز. هو أيضًا يقع في منطقة الواقع/الخيال، المصدق/غير قابل للتصديق. هذه الحالة من اللايقين حالة فنية أحاول أن أبنيها في كتابتي، فكل أعمالي محاولة لمحاكاة حالة الحلم.

- رغم كثرة التجريب، أو ربما بسببها، فإن تمييز نصوصك يصبح أسهل بمرور الوقت، هل تفكر في هذا؟ ما الذي تطمح إليه على مستوى النص بشكل عام؟

* الكاتب في النهاية فرد واحد، مهما تعددت أساليبه، ففي العمق أسلوب واحد، ومهما تعددت لغته ثمة لغة واحدة تميزه، بمفرداتها وإيقاعها وبُنيتها. طموحي الفني أن أكتب أعمالًا على غير نموذج مسبق، وأن يميزها القارئ قبل أن يقرأ اسمي. هذا الطموح لا أريد اختصاره في اللغة وحدها، وإنما في رؤية العالم وفلسفة العمل وفي البناء السردي. في التحرر من القوالب الثابتة والمتفق عليها. أحب أن أضيف لفن الرواية عامةً، وليس الرواية العربية فحسب، وأن أكتب أعمالًا معاصرة تعبّر عن اللحظة، عن إنسان الألفية الجديدة. وأطمح أن تُقرأ أعمالي بعد مئة عام من دون أن يشعر القارئ أنها عمل قديم.

هناك اتهام للجوائز العربية بأنها لا تنحاز للتجريب، وأنها تفضل المناطق الآمنة، ألا تخشى أن تبعدك كثرة التجريب عن الجوائز؟

* الشيء الوحيد الذي أخشاه أن أكتب عملًا بمعايير جائزة، ساعتها سأتوقف عن الكتابة حتى أستعيد احترامي لكتابتي.

- هل سنرى مجموعة قصصية قريباً؟ أم ستعود لإخلاصك للرواية؟ ما الجديد لديك؟

* عندي أفكار سائلة لم تُترجم إلى نصوص بعد، وعندي نصوص تحتاج إلى تطوير، وتُخايلني صور لم تكتمل بعد. بإيجاز، أنا في مرحلة الإعداد لعمل لا أعرف صورته النهائية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها