الثلاثاء 2022/07/26

آخر تحديث: 21:16 (بيروت)

كلمات صعبة في البرلمان

الثلاثاء 2022/07/26
كلمات صعبة في البرلمان
(تصوير: علي علوش)
increase حجم الخط decrease
في نقاشات البرلمان الفرنسي، منذ أيام، والتي تمحورت حول تعديلات الموازنة، وخاضها نواب من مختلف الكتل السياسية ووزير الاقتصاد برونو لومير، كلّلت الحججَ وسِهامَ الأرقام، استشهاداتٌ بجورج أورويل وويليام فولكنر. كان ذلك في إطار من الكلام القاسي والغاضب، وفي معرض تبادل اتهامات خطيرة، وحماوة في الجدل، ومحاولة كل طرف حشر الآخر في زاوية  سياسية واقتصادية هي الأقل والأكثر شعبية في آن معاً: التضخم وتراجع القدرة الشرائية للفرنسيين. مرة أخرى: أورويل وفولكنر – موازنة – قدرة شرائية.


الفقرة أعلاه، قد يصحّ لفّها بورق ملون، ربطُها بشريط لامع، وإرسالها إلى مكتب النائب عن كتلة "التنمية والتحرير"، قاسم هاشم الذي علّق على ما حصل في جلسة مجلس النواب اليوم قائلاً إنه "طبيعي" و"يحصل في كل برلمانات العالم". فقرة/هدية. تماماً كما قد يجلب المسافر العائد من العراق علبة "مَنّ وسَلوى"، أو شوكولاتة من بلجيكا، للتذوّق والتعرّف على ما لن يجده المُستلِم في مكانه، وقطعاً لم يترعرع عليه.

التنمّر، الذكورية، والبطريركية.. تعابير لا جدوى من استخدامها في البرلمان اللبناني. بل إنها هدر لغة وطاقة مأسوف عليهما، إذ لا أحد يستخدم لوح صابون معطّر لتنظيف(...)

ما علينا. المهم، أن المؤسسة المسؤولة عن مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وضبط بوصلة النقاش العام علانية، وتمثيل الشعب في التشريع وسن القوانين وتعديلها وفقاً لمصلحة الدولة العليا ومصالح المواطنين، لا سيما الأكثر هشاشة وهامشية، بما في ذلك النساء والأطفال والطبقات الاجتماعية المسحوقة... هذه المؤسسة الفصيحة، البليغة، العليمة، بكل ما للكلمة من معنى منسحب على الدور والوظيفة، القيمة والخطاب، تَبيَّن أن شخصياتها المنتخبة قد لا تفكّ الحرف، فلا تفرّق بين البطريرك الماروني والخطاب الأبوي البطريركي. وهذه هي الدلالة، فقط. أما بقية جبل الجليد المغمور بالمياه الآسنة، فيختزن ثقافة كاملة وقديمة ومتجذرة لا مفرّ من توصيفها بلا كلمات "صعبة"، وإلا بات الأمر أشبه بإلقاء الشعر في مباراة كرة قدم محلية. التوصيف ببساطة: صبيان سيئو التربية... بشوارب، تنبت على مجلات "بلاي بوي"، تتراقص فوق ألفاظ "التلطيش" لزميلة شابة، وتتبلل برذاذ تحقير الكنية لتلميذة جديدة في ملعب مدرسة متهالكة.

نعم، كما قال "الدكتور" هاشم، يحصل الكثير في برلمانات العالم. نواب يتبادلون الشتائم، ويتضاربون بالكراسي والأحذية، ويتعاركون بالأيدي. لكنها أحداث، حين تقع، تصوّرها وكالات الأنباء العالمية، وتنشرها المواقع الإلكترونية حول العالم بعشرات اللغات، في صفحات "غرائب وعجائب"، إلى جانب أخبار عن دببة راقصة أو تسجيل أرقام قياسية في ما لا ينفع أحداً إلا أصحاب المواقع المستفيدين من آلاف النقرات على روابط استهلاك الدهشة. لكن السيرك البرلماني اللبناني فاقد حتى للمتعة التافهة تلك. لا لشيء إلا لأن التنمّر والذكورية والبذاءة والبطريركية.. سِمات تبدو أصيلة في جريان جلساته ويوميات مكاتبه. فلا استثناء مذهلاً هنا، ولا مفاجآت مثيرة. هو فقط هذا "الشيء" الذي لا تسمية واحدة تَفيه حقه، لكن الواضح أنه مُقيم ومديد.

في الماضي، قبل انفجار ظاهرة الشبكات الاجتماعية، واضطرار الإعلام التقليدي إلى التراكض لمواكبتها ومحاولة منافستها بالفيديوهات ونقل التفاصيل عبر خدمة "التنبيهات"، كانت غالبية اللبنانيين "تستمتع" بمتابعة البعض القليل من جلسات مجلس النواب المنقول على الهواء مباشرة. كانت تلك أيام الندرة العلنية، وبعض الانكشاف المسموح به، فيما تُخفى أضعاف أضعافه. وفي تلك الأيام أيضاً، كانت العبارات بـ"المَونة" و"المزاح" يتم تبادلها بين أقطاب-أنداد على حواف انقسامات عامودية، فتُصرَف غالباً في السياسة وتسجيل النقاط. وأحياناً تكون اللهو المحض، كما حينما خاطب الرئيس نبيه بري، رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بـ"سِنيوريتا".

كان الرجال يتحملون بعضهم البعض، من مواقع القوى المتكافئة وإن تناحرت. والنساء لم يكنّ هدفاً، باعتبار الواصلات منهن إلى المقعد النيابي هن وريثات أو بديلات لأب أو أخ أو زوج. فمن ذا الذي سيهين بهية الحريري مثلاً؟ أو نايلة معوض؟ أو ستريدا جعجع؟ حتى غنوة جلول أيام رفيق الحريري، واليوم ندى البستاني في حضور جبران باسيل. وحينما كان الرئيس بري يقمع هذا النائب أو ذاك بـ"ما عطيتكش الإذن" أو "بس يا..." أو "أبصرش"، فإن العبارة كانت تضاف إلى موروث تراكم وصمَد وتعتّق إلى أن بلغ زمن "الواتسآب" الحالي وتحوّل سلسلة من "الستيكرز" يتبادلها المستخدمون كما يُجري جامعو الطوابع مقايضاتهم الثمينة.

الكفاءات والأداءات تتفاوت، في البرلمان كله، بقدمائه ومحدثيه. لكن أن تبلغ مقاعده نساء لم يرثن أحداً، وفئة عمرية شابة لم تفرزها زعامات تقليدية، فهذا، في حد ذاته، ما زال يربك القبضايات، والتيستوسترون يبقبق. يقولون لنواب جدد: لقد أتيتم من الشارع، فما هي إنجازاتكم؟ والحريّ بهؤلاء الجُدد أن يردّوا بالعبارة نفسها، ليمسي الشارع إحالة إلى "إتيكيت" وسلوكيات، بدلاً من إرادة شعبية، لكن كم "مُشرِّعاً" سيفهم؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها