الأربعاء 2022/07/20

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

الطموح الغائب في الموسوعات الشعرية العربية

الأربعاء 2022/07/20
الطموح الغائب في الموسوعات الشعرية العربية
غرافيتي الشعراء
increase حجم الخط decrease
في حين تؤكد البيانات الرسمية والتصريحات المتكررة المنسوبة إلى "المجلس الأعلى للثقافة" بالقاهرة، التابع لوزارة الثقافة المصرية، أن سياساته العامة، ومهامّ لجانه المتعددة، ومجمل إصداراته المنشورة والمعدّة للنشر، تتوخى الاهتمام بالكيف النوعي في المقام الأول، ولا تعتمد على الكم العددي معيارًا أساسيًّا للرؤية والهدف والتطبيق، فإن ما جرى الإفصاح عنه بشأن اعتزام المجلس إصدار موسوعة شعرية ضخمة، يكاد يكون مُضيًّا في الاتجاه المعاكس.

ليست الموسوعة بحد ذاتها، كفكرة تشتغل عليها وتنجزها "لجنة الشعر" في المجلس الأعلى للثقافة، هي موضع التناقض المقصود بطبيعة الحال، وإنما تلك التفاصيل المتعلقة بالأسلوب والممارسة والأبجديات في التصور والتخطيط ودولاب العمل، الأمر الذي يحيل أيضًا في خلفياته إلى الكثير من الموسوعات الشعرية العربية الصادرة من قبل خلال السنوات الماضية، ورقيًّا وإلكترونيًّا، وما يحكمها من آليات متشابهة، ليكون السؤال الجدير بالطرح: ما الإضافة التي تسعى الموسوعة المصرية الجديدة إلى تحقيقها بعد هذه اللائحة الطويلة من الموسوعات الشعرية السابقة، وما الطموح الغائب الذي في إمكانها أن تتداركه؟

يأتي "المانفستو" الإعلامي الخاص بإطلاق موسوعة "الأعلى للثقافة" مستغرقًا في ذلك الاعتداد الرقمي. فالإعلان، الذي جرى نشره أيضًا على صفحات السوشيال ميديا للمجلس وأعضاء لجنة الشعر من أجل تحفيز الشعراء الراغبين في الالتحاق بالموسوعة على إرسال أعمالهم، يشير إلى أن الموسوعة عنوانها "راهن الشعر العربي"، وتتضمن أجزاء ثلاثة هي: "الشعر المصري الفصيح"، "الشعر المصري العامي"، "الشعر العربي الراهن".

ويوضح الإعلان أن الموسوعة الثلاثية الأضلاع ستصدر بصيغة ثنائية؛ ورقية وإلكترونية معًا، وهدفها أن "تغطي جميع الشعراء العرب"، وفق محمد أبو الفضل بدران مقرر لجنة الشعر السابق لحظة تدشين المشروع، لتكون الموسوعة إسهامًا ثقافيًّا من لجنة الشعر في إضاءة المشهد الشعري العربي للتلقي والنقد والدراسة، وتوثيقًا للحركة الشعرية العربية في اللحظة الراهنة، بأشكالها الفنية والجمالية المختلفة. وتدعو لجنة الشعر المهتمين من الشعراء المصريين والعرب، وفق المجالات المذكورة، إلى إرسال قصائدهم، في ما لا يتجاوز 600 كلمة، مع سيرة ذاتية للشاعر في حدود 150 كلمة، وصورة حديثة له.

وتعدّ موسوعة المجلس استكمالًا لمبادرة أخرى ابتدأها فعليًّا منذ شهور، هي مبادرة "كل يوم شاعر"، التي تعتمد على أن يسجّل كل شاعر بضع دقائق، لتذاع صوتيًّا أو فيديويًّا على منصة المجلس الأعلى للثقافة الرقمية، وهي متاحة أيضًا للشعراء المصريين والعرب، وتشتمل على الشعر الفصيح بثيماته المتنوعة (عمودي، تفعيلي، قصيدة نثر)، إلى جانب القصائد الشعبية بالعامية المصرية، تحت شعار: لا لإقصاء أي صوت جيد أو تيار من التيارات.

إجرائيًّا، فإن تغطية الموسوعة "جميع الشعراء العرب" أمر يتجاوز في شططه الكمي حدود الممكن والمستحيل معًا، خصوصًا أن الشعراء هم الذين عليهم أن يبادروا، من مصر وسائر الأقطار العربية، بالتواصل مع إدارة الموسوعة، والترشح بأعمالهم. فكيف تقود تلك الآلية إلى حصر شامل لجميع الشعراء المصريين، في الفصحى والعامية، بل وجميع الشعراء العرب، من مختلف الأنساق والثيمات، مثلما يهدف القائمون على الموسوعة؟

فنيًّا، فإن مظلة "التنوع" تحت شعار "عدم استبعاد أحد"، على الرغم مما تنطوي عليه من حسن نية في التعامل الموضوعي النزيه مع الشعراء، فإنها تفتح الباب لإشكاليات كثيرة خاضتها الموسوعات العربية السابقة، وسعت في بعض الأحيان إلى تفاديها. من هذه الإشكاليات المنحدرة من "عدم استبعاد أحد" من الموسوعة المصرية، أمر إجرائي أيضًا، هو الابتعاد أكثر وأكثر عن فكرة حصر "جميع الشعراء" هذه، إذ يفتح انعدام الشروط الباب على مصراعيه أمام كل التصنيفات الشعرية من قصائد عمودية وتفيعلية ونثر، إلى جانب الشعر الشعبي والعامي، الأمر الذي يعمّق أزمة التوجه الكمي الاستقصائي الذي يجري الرهان عليه في الموسوعة الجديدة.

وعلى ما يبدو، فإن التقيد بضوابط صارمة في بعض الموسوعات العربية السابقة، مثل معجم البابطين وما على شاكلته، هو أمر لا تحبذه الموسوعة المصرية القائمة في عناوينها على التعددية والأريحية. لكن عدم إيجادها منهجية بديلة واضحة ومعلنة في طريقة الوصول إلى الشعراء أينما كانوا، وملابسات اختيار القصائد، وتحرير السير الذاتية، هو أمر غير مفهوم فنيًّا مثلما أنه غير مبرَّر إجرائيًّا، وكأنما هي تصنع من لامنهجية الأداء منهجًا، وهو ما قد يصل بالمشروع ككل إلى الارتباك، والاتكاء على الصدفة، والتجميع العشوائي للنصوص.

ومن الشوائب الفنية كذلك في التبويب المقترح لموسوعة "راهن الشعر العربي"، بأجزائها الثلاثة، خصوصًا "الشعر العربي الراهن" و"الشعر المصري الفصيح"، أن التعميم أوسع من أن يتحمله مفهوم رحابة الصدر، فهو تعميم يصدّر المتاهة والحيرة، بمعنى أنه يتطلب بالضرورة عددًا من التصنيفات الفرعية لضمان قدر مقبول من الانسجام والتجانس بين الشعراء المتجاورين. من الممكن، مثلًا، تخصيص قسم مستقل داخل "الشعر المصري الفصيح" ليشتمل على شعراء قصيدة النثر، وقسم آخر ليضم شعراء التفعيلة، وما إلى هذا القبيل من التفريعات التنظيمية.

وتبدو التفرقة كذلك ضرورية بين ما إذا كان هدف الموسوعة المصرية المزمعة أن تنطوي على "جميع الشعراء" بالمعنى الحصري، أو على نماذج منهم تمثّل أبرز تياراتهم، بالمفهوم الكيفي. في الحالة الأولى، كما هو معلن بالنسبة لموسوعة "راهن الشعر العربي"، فلابد من جهود مؤسسية كبرى، وتمويل ضخم، وفرق عمل، ومكاتب إقليمية في كل الدول، وخطط طويلة المدى للتفاعل المباشر مع أعداد واسعة النطاق من الشعراء في سائر الأرجاء، وعمل مسح شامل مستفيض للنتائج كلها، إلى جانب دراسة الحالات الخاصة في بعض الدول التي تتعذر فيها قراءة المشهد الشعري الكامل بوضوح وشفافية. أما في الحالة الثانية، الانتقائية، فإن مانفستو الموسوعة سيتغير برمته، ليقترب المقصد من نشر مختارات تمثيلية لتيارات الشعر المصري والعربي. ولهذا حديث آخر تمامًا، إذ يتطلب العمل في هذه الحالة الإجازة النوعية القائمة على تدقيق المختصين المحايدين، وهذا بالتأكيد ليس مراد صنّاع الموسوعة المصرية القائمة على فكرة التجميع الشامل لكل الأطياف.

كيف يمكن لموسوعة "راهن الشعر العربي" المصرية أن تضيف إلى حيوية القصيدة المعاصرة، وأن تتلافى المآخذ والإشكالات المثارة في الموسوعات العربية السابقة؟ ببساطة واختصار: عليها استكمال نواقصها بالأخذ من إيجابيات موسوعات الشعر العربية الكبرى، كما أن على الموسوعة المصرية تفادي سلبيات تلك الموسوعات العربية السابقة، وتدارك أخطائها.
مما يلزم موسوعة "راهن الشعر العربي" المصرية كل ما سبق قوله في هذه السطور عن الاستراتيجية والمنهجية وآليات العمل في التواصل مع الشعراء، وقواعد البيانات، وسائر الأدوات المحكمة، التي انتهجتها مؤسسات الموسوعات العربية الضخمة في تجاربها، مثل "الموسوعة الشعرية" الإلكترونية التي أطلقتها دائرة الثقافة والسياحة في أبو ظبي، كنتاج لأكثر من 20 عامًا من البحث والتوثيق والنسخ الإلكتروني للشعر والأدب بمعرفة الباحثين والخبراء واللجان الاستشارية. ومثل "معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين"، الذي جاء نتاج إنفاق واسع وجهود كبيرة من المسؤولين التنفيذيين في المقر الرئيسي للمعجم في الكويت والمقرات الفرعية الأخرى في العواصم العربية على مدار سنوات طويلة. ومثل "الموسوعة الكبرى للشعراء العرب و"موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر" من إعداد الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة، وهما حصيلة عمل دؤوب متصل في مجال البحث والتوثيق الببلوغرافي والتواصل المباشر مع الشعراء العرب في كل مكان تواصلًا تفاعليًّا بنّاء.

مما يُحتسب لتلك الموسوعات العربية السابقة، وغيرها، تعزيزها للفكرة المجردة التي تتبناها ببرمجيات واقعية، على الأرض، وتجهيزات تقنية، وتدعيمات مادية، تجعل تنفيذ الفكرة أمرًا متاحًا، وذلك بغض النظر عن مدى صلاحية تلك الفكرة، أو كونها هي المثلى أم لا. فمعجم البابطين، مثلًا، يعمل من خلال هيئة خاصة بالمعجم، ومقر رئيسي، ومكاتب فرعية، ويجري توزيع المهام والمسؤوليات من خلال شبكة اتصالات دقيقة، من حيث حصر الشعراء، والتواصل معهم، وتعبئة الاستمارات، وتجميعها، وفرزها، وإرسالها شهريًّا إلى مقر المعجم بالكويت، وإنشاء وحدات كمبيوتر لتسهيل الحفظ والاستدعاء والتصنيف والطباعة، وما إلى ذلك من أمور تفصيلية، ضمانًا لتحقيق الأهداف بأقل نسبة أخطاء ممكنة.

ولا خلاف على ما هو "ميكانيكي" في الأداء المؤسسي لمعجم البابطين، وهذا هو المقصود بالمنهجية التي تلزم موسوعة "راهن الشعر العربي" المصرية لاستكمال ما ينقصها من خطط وآليات معتمدة لتحقيق هدفها المشهر. أما الذي على موسوعة "راهن الشعر العربي" أن تتجنبه في التجارب السابقة، وعلى رأسها تجربة معجم البابطين، فهو ذلك الخضوع المغرض للضوابط والتوجهات والاستقطابات، بحيث تصير الموسوعة انحيازًا إلى صوت بعينه باعتباره الصواب، على حساب الأصوات الأخرى الموازية والمتقدمة. وحسنًا فعلت إدارة موسوعة "راهن الشعر العربي" المصرية برفضها الأوّلي كل صور المحاباة والإقصاء، وتأكيدها على الرغبة في التنوع.

ويشكّل ذلك الانحياز الصارخ للشعر الكلاسيكي التقليدي، العمودي في أغلب الأحوال، آفة الآفات في فلسفة مؤسسة البابطين، التي ربما لا تستخدم مفردة "الرجعية" في قاموسها، لكنها تضع محلها مفردات فضفاضة من قبيل: الضوابط والمعايير والقواعد والأصول وما إلى ذلك. ولا تجد استمارات الشعراء العرب سبيلًا إلى النشر في المعجم إلا بعد موافقة "لجنة الشعر"، التي تمارس عملها بفرز استمارات الشعراء، وفحصها، واستبعاد "من لا يرقى إلى مستوى المعجم". وفي قانون المعجم، فإن مجموعة الضوابط والمعايير والقواعد والأصول تشتمل على: السلامة اللغوية، السلامة الموسيقية، المستوى الجمالي والفني. ومن ثم، فإن لجنة الشعر تستبعد كل ما تراه "يهبط بمقياس اللغة، أو بمقياس الوزن، أو بمقياس الموضوع، أو بمقياس الفن".

ولا تجد لجنة الشعر في معجم البابطين غضاضة في إمكانية "حذف جزء من القصيدة" إذا دعت الضرورة، وكذلك "تصحيح الأخطاء" كإضافة حرف أو حذفه، والتدخل "لتصحيح بعض التجاوزات اللغوية أو العروضية البسيطة بالقدر الذي لا يغير من عمل الشاعر"! وقد جاءت معظم النماذج المنشورة من الشعر العمودي، ثم شعر التفعيلة، وبعضها النادر من قصيدة النثر، على استحياء شديد.

والخلاصة، أن الطموح لا يزال غائبًا بقدر كبير في مسلسل الموسوعات الشعرية العربية متعدّد الحلقات في المشهد الشعري المعاصر. فحين تتوفر المنهجية والآلية المحكمة فقد تنحرف الفكرة نحو تكريس السائد المستقر وعبادة الماضي، وحين تحضر الفكرة التقدمية الطليعية فقد تغيب الاستراتيجية والإمكانات والأبجديات. ويبقى التقييم الكامل لموسوعة "راهن الشعر العربي" معلقًا لحين صدورها، ومطالعة محتواها، ومقارنته بالموسوعات العربية السابقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها