الثلاثاء 2022/07/19

آخر تحديث: 14:57 (بيروت)

صور بشار

الثلاثاء 2022/07/19
صور بشار
increase حجم الخط decrease
لدى الوصول إلى نقطة المصنع الحدودية بين لبنان وسوريا، تطالع المرء كمية هائلة من صُور بشار الأسد. ليست الصور في هذا المحل مجرد استحواذ على العين أو القبض على المدى، إنها بالأحرى انعكاس مباشر لهشاشة البصر.

ربما أراد النظام السوري لتلك الصور، أن تكون طقسَ عبور أو فعلَ تدجين للعَين، إذ تتجاوز الصورة في ذلك المعبر الفسيح كونها محض فوتوغراف معلّق فوق الجدران والأعمدة، بل تراها أقرب إلى ترتيب صارم لنظام الرؤية، أو وسيلة يراد عبرها الإستحواذ المطلق على الطريقة التي تُقدّم بها سوريا للعالم.

ليست العين عند نقطة المصنع الحدودية، آلة رصد بصري، كما أرادت لها الطبيعة أن تكون، بل ترى العين هنا محلّ أَسر، محلّ إحاطة، بل تراها محلّ عجز إلى حد الرغبة بالإنطفاء. تتكلّم الروائية الباسكية (نسبة إلى إقليم الباسك) Miren Agur Meabe في روايتها "عين زجاجية" عن بعض الصور التي تناطح مجال الرؤية "فتدفع بالعين إلى الرغبة بالإختفاء، بالتدحرج وبالإنزلاق من مكانها فوق الوجه".

ثمة دعوة إلى الحذر تستبطنها تلك الحدود الزلقة والحافلة بهذا الكم من صور بشار، فضلاً عن صور حافظ وباسل الأسد، حيث النسيان في حضرة تلك الصور هو ترف في غير محلّه، فتراني أقع في لجة ذكرى قديمة استبدّت بي وتتمحور حول حاجز للجيش السوري في منطقة خلدة في الثمانينات، حيث الذل والمهانة والبهدلة كانت تشكّل عناوين يومية لكل من كان يمرّ من هناك.

ثمة من كتب مرة أن البصر أشدّ ذكاءً من اللمس ومن سائر الحواس، بيد أن كل الحواس عند الحدود اللبنانية السورية تُختزل في حاسة البصر... إنه الجسد مختَزَلاً في العين التي لا مفر لها، فصُور آل الأسد تغطي المكان كأشلاء بلد دمرته الحروب. تخون الحواس الجسد في تلك المساحة عبر الإنكماش، إلا البصر، إنه البصر الذي أُلقي القبض عليه عبر بشار المبتسم، بشار عاقد الجبين، بشار ممتشق السلاح وإلى آخره من بشار.



ثمّة شاعر روسي يدعى الكسندر جاليش (1918- 1977) كتب قصيدة بعنوان "جيل حكم عليه القدر"، يتكلم فيها عن كابوس يتجسّد في بثّ الحياة فجأة في كل تماثيل ستالين بعد موته... طالعني جاليش أثناء إمعاني النظر في صورة ضخمة لحافظ، ليعود بشار ويشدّ ناظريّ عبر صورة تضمّه وزوجته أسماء، وكأني بآل الأسد يهندسون القدر بما يتناسب ومآربهم حيال تلك الجغرافيا الممزقة، وكأني بالقدر في ذلك المدى الأرضي محض أسير لزمن ثابت هو زمن آل الأسد.

كل ما في هذا المكان عصي على النظر، ما خلا صور آل الأسد: محاصرة العين، ترتيب البصر، هندسة الرؤية وترقيع الفضاء، وصولاً إلى محو ذاكرة المكان ما قبل الأسدية. إنها الصورة التعويذة التي تمعن حتى في رسم حدود الماضي الذي رحل، وحفر حدود المستقبل الذي لم يتشكل بعد. يضيق المكان هنا، بينما الصورة تتسع حتى اللمح الأخير للبصر، للخيال وللروح.

صور كثيرة عند هذه الحدود الجرداء تهدهد سرير الإنتظار، انتظار الإنتهاء من تلك المعاملات التي تجيز الدخول إلى الأراضي السورية. التاريخ هنا مرئي عبر سحنة الأسد الأب، وهو مسوّر بإتقان عبر تلك النظرات المرتابة التي تبثّها صور الابن بينما الحاضر مبدّد في تلك الصور... الحاضر أشلاء.

غير أن تلك الصور لا تتوانى في بعض مضامينها عن أن تكون هي نفسها عيناً، واسعة، تحدّق بإمعان في المارة، فتستبطن ذاكرة المستقبل وتمعن النظر في سياسات الهوية والإنتماء بل وتختلس الرؤية إلى الآمال والرجاء. الصورة كما تتبدّى هنا، هي في بعض مراميها عين تبحلق في عين الرائي، فتعمد إلى استنطاقه، لقراءة ما فوق لسانه وكشف خباياه والولوج إلى دهاليز خباياه.

ليست الصورة في هذا السياق مجازاً عن واقع آخر، إنما الصورة هي الحقيقة المطلقة التي ترى في واقع المارة مجازاً تنقصه المتانة، تنقصه الهيبة وينقصه الوقار.. إلا عبر تلك الصور. فتلك الصور المنتشرة بما يفوق قدرة البصر على الإحاطة والإلمام، هي نمط من مراكمة وجود لا حيلة لتداركه، ولا للإفلات منه أو حتى لتجنبه. فالصورة عند تلك الحدود هي بمثابة نهاية مستمرة لبداية أقرب إلى الأبد الذي لا يعرف الزوال.

ثمة من يرى، من أهل النقد الفوتوغرافي، أن التعامل مع ما هو واضح ليس له أي ميزة، غير أن نقطة المصنع تخربط هذا المبدأ النقدي، إذ أن الوضوح هنا هو بغاية الضبابية، إنه متاهة وهو في بعض جوانبه دغل يحفر في العين إلى حد الغشاوة.

في تصويره لحياة Wilhelm Brasse الذي كان المصوّر المعتمَد في معتقل أوشفيتز الشهير يقول المؤرخ الألماني Reiner Engelmann أن Brasse والذي كان بالأصل معتقلاً في أوشفيتز، كان يشعر بالعار لدى تكليفه بتصوير كبار ضباط المعتقَل من النازيين بسبب احترافيته في فن التصوير، بعدما كان عمله مقتصراً على تصوير جثث ضحايا التعذيب، ليكتشف لاحقاً مع نهاية الحرب وخروجه من المعتقل أن تلك الجثث هي الوجه الحقيقي لقادة الأوشفيتز...

صفق السائق، باب الفان بقوة، وهو يقول لركّابه "مشي الحال"، وقد أتمّ إنجاز كل معاملات العبور. انطلق بنا إلى الداخل السوري على وقع البسملة والحمدلة يطلقها بقية الركاب، بينما أنا أستعرض بذهني صور بشار المسرّبة من معتقلات نظامه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها