الأحد 2022/07/17

آخر تحديث: 09:06 (بيروت)

يوم رحلت أسمهان

الأحد 2022/07/17
increase حجم الخط decrease
يوم الخميس الفائت، حلت ذكّرى أسمهان التي قضت في حادثة سير في 14 تموز 1944، بعد مسيرة فنية متقطعة لم تدم طويلا. تعدّدت الروايات حول هذه الحادثة، وكثرت القصص حول هذه المسيرة، غير أن العودة إلى الصحافة التي شهدت هذا الحدث منذ ثمانية وسبعين عاما تعكس صورة تختلف بشكل كبير عن تلك التي تكرّست في الذاكرة الجمعية في زمننا.
 
تأتي سيرة أسمهان بشكل مختزل في ذلك الزمن، وتخلو من الكثير من الحوادث التي نسجت حولها لاحقاً، وباتت من المسلمّات. بحسب ما نشر في صيف 1944، كانت اسمهان في الثلاثين من عمرها حين رحلت عن هذه الدنيا، وكانت قد نزحت إلى القاهرة منذ أكثر من عشرين عاماَ، مع والدتها عليا (علياء المنذر) وشقيقيها فريد وفؤاد، وأقامت معهم في شقة متواضعة بالدور الأول من مبنى يقع في حي الظاهر. أخذ فريد يتعلم العزف على العود والغناء، وكانت الأم هي الأخرى تغوى الغناء، وقد استمع إليها سنة 1928 "مستر كرين، الأميركي المعروف بصداقته للعرب، والذي يجمع حوالي أربعة آلاف أسطوانة عربية"، "وأعجب بها كما أعجب بإبنها فريد على العود، وقد قرّر منذ ذلك الوقت أن يمنحها شيكاً سنوياً بمبلغ محترم ظل يُصرف حتى وفاته" في 1942، وقد سجلت شركة بيضافون للسيدة عليا  أسطوانات عديدة، غير ان هذه الاسطوانات "لم تلق رواجا يُذكر".

انتصار الشباب
في هذه الحقبة المبكرة من حياتها، يقيت أسمهان "في حالة ضنك شديدة"، ثم كبرت ونضجت، وراحت تغني في الحفلات الصغيرة الخاصة، وقدّمها محمد القصبجي إلى الخواجة استيليو رولاكس صاحب شركة كولومبيا للأسطوانات، فأصدرت لها "خمس أسطوانات لم تلق نجاحاً يذكر"، تقاضت عنها مبلغ خمسين جنيها مصريا. وبعد بضع سنوات، تلقفتها الإذاعة المصرية، "وجعلت لها شأنا يُذكر في عالم الغناء". وتكاثر المعجبون بها من أصحاب الأموال، "فوجدت كل مطالبها، ولم يكن من عادتها ان تدخر شيئا فكانت تنفق عن سعة". وفي مطلع الأربعينات، تعاقدت معها احدى الشركات السينمائية، فلعبت دور البطولة في فيلم "انتصار الشباب" إلى جانب شقيقيها فريد، وتزوجت من مخرج الفيلم أحمد بدرخان، "غير انها لم تلبث معه أكثر من شهر واحد ثم طلّقها، وأبى أن يفوه بكلمة واحدة عن أسباب الطلاق". هكذا عادت أسمهان سريعا إلى حياة الحرية، ثمّ عادت وتزوّجت من الأمير حسن الأطرش، وهو من زعماء جبل الدروز، واستقرّت معه في سوريا بعد أن اعتزلت الفن، غير أنها لم تلبث ان انفصلت عنه لتعود مرة أخرى إلى حياة الحرية التي ألفتها من قبل، غير أن الحكومة المصرية لم تأذن لها بالعودة إلى مصر.

تزوجّت أسمهان من النجم السينمائي أحمد سالم طمعاً بالحصول على الجنسية المصرية كما قيل، لكنها لم تحصل عليها، ثم استطاعت أن تعود إلى مصر بعد أن تعاقدت معها شركة مصر للقيام ببطولة فيلم سينمائي جديد أمام يوسف وهبي، وظلّ حسين سعيد بك مدير هذه الشركة يسعى لتأمين عودتها، حتى نجح في ذلك. هكذا عادت أسمهان إلى مصر، وتزوّجها أحمد سالم مرة أخرى بعد أن طلّقها، وانتهى هذا الزواج بمأساة، حيث أطلق الزوج الرصاص على نفسه، فأصاب بمسدسه ضابطاً من كبار الضباط القسم السياسي يُدعى البكباشي محمد إبراهيم، بينما كان هو وأحد زملائه يقومان بحراسة أسمهان في بيتها، إذ كانت قد اتهمت زوجها بأنه هدّدها بالقتل. إثر هذه الحادثة، واثناء عملها في تصوير فيلمها الثاني الذي حمل لاحقاً عنوان "غرام وانتقام"، توجّهت أسمهان إلى منطقة رأس البر لتمضية فترة من الراحة هناك برفقة صديقتها ماري قلادة، وفي الطريق، فقد السائق السيطرة على السيارة، فانحرفت وسقطت في الترعة، فلاقت أسمهان حتفها مع رفيقتها غرقاً. نجا السائق وحده من هذه الحادثة، ونقلت الصحافة خبراً يقول إنّه بينما كان يقود السيارة، سألته اسمهان: "انت اسمك فضل؟"، فردّ بنعم، فقالت: "ده فضل من الله". فسألها عما تقصد من السؤال، وهي تعرفه معرفة جيدة، فقالت: "علشان فضلك سابق علينا، ومن فضلك خلي بالك كويس من يوم الجمعة يا فضل الله أفندي". 

ساعة التخلي
رثت الصحافة أسمهان، وقالت ان الفنانة عادت إلى مصر لتقوم ببطولة فيلم سينمائي جديد، فأضحت بطلة الحادث المؤلم الذي وقع في الطريق إلى راس البر. واللافت أن هذه الصحافة تعرّضت في رثائها إلى حياة أسمهان الصاخبة بشكل أساسي، ولم تذكر عطاءها الفني إلا بشكل ثانوي. كتبت مجلة "روز اليوسف" يومها: "من حق أسمهان علينا، ونحن نكتب عنها لآخر مرة، أن نقول إنها لم تعش لنفسها بقدر ما عاشت لأصدقائها ومعارفها، فلم تكن تبخل بشيء في سبيل ادخال السرور عليهم، وإذا عرفنا ان حفلة واحدة أقامتها أسمهان تكلّفت أكثر من ألف جنيه، لزال عجبنا عندما نعرف أن أسمهان صرفت أكثر من مئتي ألف جنيه في سنة واحدة، ولا تزال مُدينة منها حتى الآن بمبالغ قدرها عشرة آلاف جنبه". وأضافت المجلة: "وقد تسأل وأين هؤلاء الأصدقاء؟ وأين هؤلاء المعارف؟ وأما الإجابة المؤلمة المخجلة فهي أنهم كلّهم تواروا وكلهم لم يظهروا في الساعات الأخيرة لأسمهان في هذه الدنيا. لم يكن يقف بجوارها خلاف والدتها إلا بعض زملائها من الفنانين في مقدمتهم الأستاذ محمد عبد الوهاب والسيدة تحية كاريوكا. أما الآنسة أم كلثوم كبيرة مطربات الشرق ونقيبة الممثلين فكان كلّ ما فعلته ان أرسلت من رأس البر للأستاذ فريد الأطرش تلغرافا هذا نصه: "فريد الأطرش. الزمالك. أعزّيكم. أم كلثوم". أمّا نعي نقابة الموسيقيين الذي نُشر يوم الوفاة بتوقيع أم كلثوم فأنها، أم كلثوم، لم تدر عنه شيئا، والذي قام بعمله هو الأستاذ محمد بخيت".

في المقابل، نقلت مجلة "الإثنين" عن أحمد سالم، زوج الفقيدة الأخير، قوله: "كان كل ما يؤلم أسمهان أنها مضطرة أن تخرج من مصر، كانت تريد أن تبقى طوال حياتها في مصر ولا تغادرها، ولهذا كان يبدو عليها دائما أنها تتوجّس خفية من أن شيئا سيحدث، ولم يكن هذا الشيء الذي تخشاه هو الموت، وانما خروجها من مصر". كذلك، حاورت المجلة يوسف وهبي، بطل ومخرج الفيلم الذي لم تُكمل دورها فيه، وجاء حديثه دفاعياً كما يبدو، إذا قال: "ماتت أسمهان، لم تخلف وراءها ثروة، فأين هذه الألوف التي وصلت إلى بابها؟ هل كانت مقامرة؟ أو مضاربة في البورصة؟ لا. ولكن هناك المطاعم الشعبية والأسواق الخيرية في سوريا ولبنان، كانت أسمهان ترعاها". 

أضاف النجم الشهير في هذه المداخلة: "عندما تزوّجت أحمد سالم، أرادت أن تحيا حياة شريفة نقية، وأرادت له الخير، فقد اشترطت في اتفاقها مع احدى شركات السينما على أن يدخل شريكاً بالأرباح بلا رأس المال. كانت زوجة وفيّة، أذكر أنني دعوتها مرة لتناول العشاء مع شخصيات كبيرة لا تستحسن وجود أحمد سالم، فاعتذرت عن الحضور. كان الناس يعيبون عليها تناولها الخمر، فكانت تقول لي: انا فعلا أرتكب جريمة تشمئزّ منها نفسي، ولكنّني أتناولها طلبا للنسيان لا حبا فيها. وفي أيامها الأخيرة، كانت تشعر بانقباض عجيب، وعندما تلقّت من وزارة الداخلية إنذاراً بمغادرة مصر في 28 أكتوبر المقبل، قدّمت لي الخطاب بيد مرتجفة قائلة: ماذا فعلت؟ وإلى أين أذهب؟ ماذا يكون مصيري؟ مصر بلدي وبها مكاني، ألا يوجد غير أسمهان يقولون عنها أجنبيّة خطرة؟".

في 24 تموز، أي بعد مرور عشرة أيام على وفاة النجمة الشابة، نشر الشاعر علي أحمد باكثير في مجلة "الرسالة" قصيدة بعنوان "سلام على أسمهان". في 1944 كذلك، نظم الأخطل الصغير في رثاء المطربة التي رحلت باكراً قصيدة جاء فيها: "أضاع جبريل من قيثاره وتراً/ في ليلة ضلّ فيها نجمه الهادي". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها