الأربعاء 2022/07/13

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

لِكُلِّ طاحون مُثقف ذمّي

الأربعاء 2022/07/13
لِكُلِّ طاحون مُثقف ذمّي
اللوحة للفنان السوري ماهر البارودي (عن موقع مؤسسة الأتاسي)
increase حجم الخط decrease
على طريقة نكات فترة التسعينات وقوالبها الجاهزة، يُمكِننا تأليف النكتة التالية:"في مكان وزمان ما أُلقيَ القبض على مٌثقَّفٍ يُجيد اللف والدوران في كتاباته، وخيّروهُ بينَ الموت شنقاً، وبين تقييدهِ وعصبِ عينيه ثم إسماعِهِ شريطاً مُسجَّلاً تتكرّر فيه عبارة: أنت ذمّي.. فما كان منه إلا أن اختار الموت شنقاً! وعندما دُفِنَ كُتبَ على شاهدة قبره: هنا يرقد الذمّي فلان!".

يضيق معنى الذمية أو يتّسع بحسب الموقف. لكن المقصد المُراد هو "وصف سلوكيات أشخاص مؤثرين فكرياً، وعلاقتهم بمشاريع أيديولوجية على مبدأ تبادل المنافع بين طرف ضعيف وآخر قوي".

وطالما أن الوصف مجازي، فستتعدد أنواع الذميين، سواء كانوا ينتمون لأقلية دينية تدفع جزية لأكثريّة، مقابل أن تحيا بأمان وتمارس عاداتها. أو كانوا حركة سياسية تعيش في ظل حزب حاكم. أو كانوا شخصيات أكاديمية وإعلامية وحقوقية مهمتها التلاعب بالرأي العام لصالح قوة جهادية.

ولوهلةٍ قد تتدحرج الإدانة المستعجلة في رأس القارىء، فيَعتقِدُ أن جميع العاملين في مجالات الثقافة، ومحترفي تدوير الزوايا، مُتّهَمون مسبقاً بالذميّة بدرجات مختلفة! وهذا يَصِحُّ فقط كشتيمة ينتقم بها صاحبها من منافسيه، أو كعنوان مقال يَنظُمُه مثقّفو تعميم الشعور بالذنب، ويبدأ بكلمات: "يا ويلنا، يا جرحنا....نا نا نا نا".

إذاً لا داعي لخلط الذمية بمفاهيم أخرى كالعلاقات العامة، أو الولاء السياسي للمحاور الإقليمية، فالمعنى الأدبي هنا يرصد "كيفية استخدام التنظيرات الثقافية للترويج بشكل غير مباشر لمشاريع الاستبداد الديني أو مثيلاتها القائمة على البلطجة باسم الفضيلة، والمستقوية بكثرة العدد أو بالمال أو بالسلاح". وتلك وظيفة لا تعرف شغوراً أو تقاعداً، فالذميّون أدوات أساسية في عُدّة شُغل التيارات أحاديّة الحقيقة. وكذلك كانوا خلال مراحل الثورة السورية. أما لماذا الحديث عنهم اليوم؟ فلأنّ سوريا تدفع ثمن ذَيليّتِهم، ولأنّ هؤلاء يعيشون حالياً ما يشبه الصحوة المتأخرة أو شجاعة ما بعد انتهاء المعركة، فأصبحت مثيرة للاهتمام متابعة ما يقوله ناشط وهو يكشف أن شعارات جهادية حُذفت من بعض مقاطع الفيديو في بداية الثورة، بهدف إعطاء صورة جميلة عن الحِراك، أو ما يذكره مثقف جريء وهو يشتبك عبر حسابه التويتري الحيّ، مع من يسميهم "المتطرفين"، كي يبدي رأيه في أحد صحابة الرسول، ليعود لاحقاً ويعتذر. وعلى هذا المنوال سنرى أمثلة عديدة قد يَرِدُ ذِكرها بهدف استكمال صورة الفشل السوري، وليس لإدانة أو تقييم أحد.

"يتحمّل الذمي مسؤولية تَغوّل العنف الديني، وتفتيت الحشود، وتخلّي مكوّنات المجتمع عن الشراكة الهادفة للتغيير، وتبنيّها شِعار: إذهب أنت وربك قاتلا". خلاصة تُمثّلُ بلا شك حِملاً ثقيلاً، فالذميّون مُجرّد مُسنّنات صغيرة في آلة ضخمة مُنتجة للتطرف بأنواعه، ففي سياق إسلاموي تبدأ العملية بطفلنة المُسلم، والثناء على دَوره كضحّية (لا كمواطن طبيعي)، وتنتهي باتهامه بأنه تلميذ فاشل في مدرسة "الحريات الجنسية".

أما في الحالة السورية تحديداً، فهناك بُعد سياسي لا يمكن إنكاره يتمثل في دَور النظام الأسدي حين أفرج عن شخصيات ساهمت في أسلَمة الحراك، فضلاً عن أثر التمويلات الخارجية الداعمة للمجاهدين، والمجازر الطائفية المرتكبة، وتدخل إيران ومليشياتها. وفي المقابل، تبرز عوامل أخرى تجعل من غير المعقول اختزال التطرف في رَدّ الفعل، فبُنيَة المجتمع السوري طبقياً وعشائرياً ومذهبياً وزبائنياً، مُركّبة ومتداخلة. ولولا ذلك، لكنّا شهدنا مثلاً انقساماً نهائياً بينَ السُنّة والأقليّات، ولما كان جزء من أهل السنّة السوريين أخلصوا الولاء للنظام، ولما كانت فصائل الثوار ذات اللون المذهبي الواحد لتتقاتل باستمرار في ما بينها حتى اليوم.

تَمُرّ هذه المعطيات كخربشات غير مُحبذة تمّ اقتطاعها كي لا تضعف قدرة وسائل الإعلام على الاستقطاب. وليَكتَمِلَ المَشهد "النموذجي"، وَصَلَ ذميّو الثقافة إلى الحدَث السوري بعد 2011، بما قبله من أحداث كانت تُقدّم كجولات صراع "سنّي/علَوي"، واستخدموا لهذا الغرض لغةً وخطاباً وطنياً يستبطن "العدالة الثأرية"ً، مع اتّباعِهم تكتيك "الجماهير تقودنا، ونحن نعطي صورة مُفلترة عن الثورة لِنضمَنَ استبدال النظام بأسرع وقت". وذَهَبَ أهل ذمة الفكر أبعد فأبعد، من خلال رصد وقائع الحرب السورية انتقائياً، وتبرير أي عنف طائفي متبادل وفق قاعدة "هم الذين بدأوا"!  والحال أن هؤلاء المثقفين والنشطاء، استفادوا بمرور الزمن من موضات فكرية تتيح تحليل الظواهر رغبويّاً، بالاختيار مثلاً بين توصيف مجزرة على أنها تعبير عن نهج جماعة معينة، أو قياسها بالمعيار الفايسبوكي المسمى خطاب الكراهية، أو اعتبارها سلوكاً فردياً، وفي النهاية تركيب أذُن الجَرّة وفق ما تقتضيه المصلحة.

يُضاف إلى ذلك مَظهرٌ ميّزَ الذمية الفكرية السورية، وتمثّل في تجاهل عامل مؤثر هوَ بحث جمهور الثورة عن هويّتِه بين الدول الإقليمية السنيّة. فلَيسَ تفصيلاً عابراً أن يكون الموقف من "سوريا المستقبل" محكوماً بالانتماء إلى مَن يمثّل الدِّيْن ويحفظه (من خارج حدود البلد)، أو بالانتقام ممَّن يخيب الأمل، وبالتالي انتقال الجمهور من الذوبان تحت راية مذهب، إلى الارتهان للهيام أو للحقد على دولة تبعاً لاعتدالها أو راديكاليتها.

ولأن أسلوب تدوير الهراء لا ينفع مع هذا الموضوع، فقد قفز الذمّيون فوقه بمهارة أبطال الوثب العالي، واكتفوا بتلميحات من حين إلى آخر عن الشق الأول المعروف من الحكاية: "المد الإيراني الشيعي"، وترصّدوا بالابتزاز كلّ من يوسع دائرة النقاش بتهمة الانتماء إلى "حلف الأقليات"، فظلّوا يحرّكون طاحونة الثأر الجماعي من بُعد، عبْر تقديم طروحات أكاديمية تمزج بين علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، لكنها تدور في دائرة مفرغة. فحين يكون محور الحديث مثلاً الحاجة للعلمانية كأساس للمساواة في المُواطنة، يلتفّ الكاتب منهم على الموضوع الرئيسي، ويقدّم ألواناً وأنواعاً ومقاسات من العلمانية، ناشراً بضاعته بطريقة منفّرة على أرصفة مواقع التواصل.

وفي الجانب الاستعراضي سعى المثقف الذمي إلى الحفاظ على هيبته النضالية، فبمجرّد خفوت نجمه يلجأ إلى طقوسه مضمونة التأثير، فيسابق الجموع في طقس "لعن روح حافظ الأسد" مع اختراعه كلمات نابية مبتكرة تظهر شراسته الثورية، وتجاوزه للسائد والمألوف. وإذا حامت الشبهات حوله بأنه ذيلٌ للمجاهدين، رمى بورقته الرابحة مشاركاً الناس صور نبيذه المفضل، لِيُبرهن بأنه "حرٌّ وحرٌّ وحرّ.."، وليُبعِدَ تهمة التسلط والقمع عن أسياده وكلاء القِيَم الحصريين، وليُؤكد بأنهم متسامحون ومنفتحون إزاء سلوكياته الماجنة.

ولعل مفهوم "الحرية" يصلُح كأساس لتقييم دور الذميين. فبفضل مساهماتهم، خَرَجتْ هذه الكلمة من قواميس التغيير في المنطقة. وبدلاً من إنتاج نسخة جديدة من الإسلام المُعولَم، حصل العكس، فتصاعدت الصراعات البينية، وارتدّت المكونات الإثنية نحو ذواتها ورموزها، وحدثت استفاقة طائفية وقومية جرى استغلالها من الأنظمة. وعلى غرار حِراكات "سيادية" سياسية في لبنان والعراق، انتفضت ضد استخدام الولائيين ذوي التوجه الشيعي لأطياف أخرى، راح سوريون يبحثون عن هويتهم -ولو ثقافياً- بمنأى عن عروبة النظام البعثية، وإسلامويّة الثورة بتوجّهها السُنّي.

ويمكن القول أن العودة العنيفة الى الذات لم تقتصر على انكفاء أبناء الجماعات والتوجهات المختلفة عن مشروع أُتخِمَ بتبريرات لخياراته الأحادية (سلفية، تسليح...)، وإنما تجاوزتها إلى الجانب العقائدي مع تَبرّؤ سورييّن كُثُر من جميع أشكال التشدّد، والتأكيد على أن الإصلاح الديني شأن طائفي داخلي، وأنّ تقلّب أتباع تيار معين بين "طاعةِ وليّ الأمر، أو الثورةِ عليه" يَخُصّهُم وحدَهُم، بغض النظر عن الكثرة أو القلة، مثلما هو حال التقلبات الفقهية لـ"تسريع ظهور المهدي" والمتحكمة في دول مجاورة. كما تجلى الانكفاء أيضاً في وضع حدّ لتغطية شخصيات وطنية وحزبية وحقوقية، لشركاء سلفيين لا يليق بهم أن يمثلهم سوى نشطاء توزيع الشتائم على العالم وتَسوُّل مساعداته.

وفي العمق، عَكَس تخلّي أبناء الإثنيات عن "الشراكة"، حرصهم على ألّا ينتهي الأمر بإرثهم وهو يُسحَقُ في آلة فرم اللحم البشري الكبرى المسماة "الإعلام الاجتماعي" ليتحوّل إلى category تُغذّي خوارزميات وتستبدِل طوائف لها تمايزاتها الفكرية والمجتمعية بتقسيمات على أساس الموقف من الحِجَاب أو من الجنس، وتختصر الإسلام في عقيدتين: مذهب اللَّونَين ومذهب الألوان الستة.

وبما أن الذمّي متخصص في التحريك من بُعد، وتوزيع الحساسيات والكراهيات بشكل أعمى، فقد كانت له بصمة أخرى في إعادة تشكيل الحشود، حيث فقَدَتْ المبادىء المشتركة صفتها الشعبية، لِتحلَّ محلّ "العدالة" عدالات انطباعية مبنية على شعور كل فئة بالخذلان، وتوهُّمها بأن "نوعية الألم تحدّد الانتماء إلى هوية دينية أو عرقية او جنسانية"، واشتراطها على المنتمي إلى جماعة تقديم جِزيَة تضامنية كي يَعبُرَ حواجز المتألمين/ات نحو جماعتهم/هن.

على هذا الأساس لم يَعُد مستغرباً انتشار العرف الجديد المتمثّل في تحويل أصغر فعل فكري لكاتب (كلمة، صورة، رمز ..) إلى عمل مدفوع الأجر. وبعيداً من دور الذمي في إصدار نشرات أسعار جديدة لكل إيماءة فنية أو أدبية، ومساهمته في تسطيح العقول من خلال إفراغ الفكر من قيمته، فإن أسوأ ما جرى هو أن الذمّي نفسه شكّل عارضة خشبيّة عبَرَتْ فوقها طفيليات التحليل والتحريم من جسد التطرف باسم الدين إلى أجساد محاربين له، فأصبحت معركة التغيير مزايدات أخلاقية استعراضية بين مُحتَمِينَ بالتقاليد من جهة، وبين تَحرُّرِييّن مسلحين بآخر صفحة قَيد الكتابة في الدساتير الغربية من جهة ثانية. أي أن التنافس بات على من يستبدّ أكثر، ويجمع الفضيلة والقوة (السلطوية أو المالية أو العددية...). وبعدما كان لدينا "فقهاء الظلام" بفتاواهم الدينية وجيوشهم الإلكترونية، بات هناك "فقهاء الضوء" ممّن يطبّقون فكرة الحلال والحرام في مجال الحريّات، وينشرون مليشياتهم الثقافية في كل مكان. وخارج هذه المعركة يقفُ متفرجون كثر رفضوا أن ينساقوا خلف محتكري الحقيقة بأنواعهم، وفضّلوا مراقبة انتقال الحمار من طاحونةِ مبادىء إلى أخرى، ومسارعته إلى عَصبِ عينيه بنفسه، ثمّ الدوران في المكان، وتوهّمِ القدرة على السَّيرِ بالناس إلى الأمام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها