الثلاثاء 2022/07/12

آخر تحديث: 17:47 (بيروت)

فيصل دراج: نجيب محفوظ روائي كل العصور

الثلاثاء 2022/07/12
فيصل دراج: نجيب محفوظ روائي كل العصور
روائي بديع الأطوار، شغف بالتاريخ ودرس الفلسفة
increase حجم الخط decrease
بالتزامن مع إتاحة أعمال نجيب محفوظ الكترونياً وبشكل مجاني من دار "هنداوي"، واقتراب صدور طبعات جديدة عن ناشره الجديد "ديوان"، صدرت مؤخراً دراسة الناقد الفلسطيني فيصل دراج "الشر والوجود.. فلسفة نجيب محفوظ الروائية" عن الدار المصرية اللبنانية، لتقدم قراءة بانورامية في أعمال محفوظ، وتحاول النفاذ إلى فلسفته الروائية، وتهيئ لاستقبال جديد لأعمال الروائي المتعدد الذي لا يكف عن التجدد.

يمهد دراج في دراسته تمهيداً رائعاً للدخول إلى النص المحفوظي، لكنه قبل ذلك يكتب ما يشبه التقديم للإنسان نفسه، فيصف محفوظ بأنه: روائي بديع الأطوار، شغف بالتاريخ ودرس الفلسفة، وكان بارعاً في مادة العلوم واحترف الكتابة الروائية، ورأى فيه عارفوه لاعب كرة قدم واسع الخطوة، وقرأ جيمس جويس بالإنكليزية، وأعمال أناتول فرانس بالفرنسية، وانتظر طويلاً ثورة مصرية وابتعد عنها، واعتبر العلم أكثر أهمية من الأدب، وعمل طويلاً ككاتب سيناريو سينمائي، وتعرّف على روايات جرجي زيدان وطه حسين ورواية محد عباس العقاد الوحيدة وقطع مع كتابة الجميع. سار إلى مثال غامض لا يعرفه إلا هو.. كان كثيراً في كيانه المفرد، ومفرداً لا ينصاع إلى "الكثير"، محا المسافة بين حاضر المحكومين وماضيهم، وأبصر مدينة فاضلة، لن تأتي.

مدخل
قسّم دراج، روايات نجيب محفوظ، إلى وحدات مستقلة إلى حد ما، تبدأ بـ"المرحلة الفرعونية" التي أعاد المتخيل بناءها زمنياً ومكانياً، واستخلص منها رسالة فكرية مفادها أنّ "لا حكم عادلاً بحاكم يختصر الحكم في ذات مكتفية بذاتها". تلت ذلك مرحلة واقعية أو مرحلة "الأجداد" التي تعامل فيها مع طبقة مصرية وسطى في النصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي عرفت حداثة هجينة واستعماراً انكليزياً. أعقبه انقطاع روائي مأزوم، أعلن عن أزمة- خيبة في "أولاد حارتنا"، وهي رواية دينية السطح سياسية الأعماق كما وصفها، أفضى إلى رواية "الفرد المغترب"، وامتدت تلك المرحلة من "اللص والكلاب" إلى رواية "ميرامار". جاءت بعدها "ملحمة الحرافيش" الأعلى طموحاً في مساره الروائي الطويل.

وإن كانت قراءة النص المحفوظي تُستهل بمداخل عديدة إلا أن دراج يلخصها في ثلاثة فقط: السلطة، المفارقة، والصدفة. ويفرد لكل منها فصلاً كاملاً، فعوضاً عن السؤال المدرسي كيف نفهم رواية محفوظ، يطرح دراج سؤالا آخر هو: لماذا تستعصي المفاجآت المتواترة في النص المحفوظي على الفهم؟ ويجيب بأن النص قد يستعصى على الفهم إن قُرئ مفرداً، لكنه لا يصبح كذلك "إذا قُرئ على ضوء قاعدة محفوظ المحدثة عن مأساوية البحث عن الحقيقة التي يعطلها الشر، أو الحقيقة كواقعة مأسوية تنفتح على الهزيمة، أو تفضي إلى لا مكان"، ما يجعل الفعل الروائي عند نجيب محفوظ "نبيل الهدف مأسوي الأثر، لا الكتابة تنتهي ولا هدفها ينتصر"!

يوضح دراج في دراسته كيف بنى محفوظ وهو ينتقل من مفارقة إلى أخرى، "فضاء قدرياً"، يحكم القدر فيه رغبات البشر وتحركاتهم، منذ أن اعتبر الرواية فعل مقاومة أو فناً كتابياً مقاوماً، ينتقد السلطة كاشفاً عنفها ويواجه الشكل الروائي المتقادم بآخر جديد "وضع محفوظ القدر فوق السلطات جميعاً، وأوكل تجسيد الأرضي إلى سلطة شريرة، لا تقدر على اعتقال القدر لحسن الحظ، يقف خارجها أخيار تعبث بهم الصدف". من هنا يضع المؤلف الشر كمركز لكتابة محفوظ الروائية، ويطرح أسئلة مفتاحية يرى أنّ إجاباتها تتناثر في كل أعماله: "إن كان شر الإنسان وافداً، يمليه عليه وجود شرير، فكيف يحاكم الإنسان الشرير؟ وإذا كان الشر يسقط اعتباطياً على البشر، كأنه القدر، فما إمكانية إقامة مجتمع لا شر فيه؟ وما الذي يتبقى من "العدل والحرية" إن كان القدر الشرير حاكما لبدايات البشر ونهاياتهم؟ وهل "الفتوة" الذي يساوي حيوات البشر بالتراب، امتداد لشر الوجود أم أنّه أداة سلطة دامية، وما مقادير الوجودي والسلطوي في ضرباته القاتلة؟".

دلالة الأقنعة
"تتبادل الأزمنة المعطوبة الأقنعة، ويتبادل الحكام المهزومون الوجوه، فتكون بعض الأزمنة أقنعة لأزمنة أخرى، ويستعيد الحكام المهزومون وجوه مهزومين سابقين ينتسبون جميعاً، إلى سلطة بائرة". تلخص جملة دراج السابقة دلالة الأقنعة في أعمال نجيب محفوظ والطريقة التي اتبعها في عرض ونقد تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي على وجه الخصوص، ومعالجته لقضية السلطة في كل العصور.

يقول دراج إنّ محفوظ الذي اتخذ المفارقة فلسفة، أنطق الفرعون بعد ست صفحات من روايته الأولى "عبث الأقدار" بسؤال ليس من اختصاص الآلهة: "من الذي ينبغي أن يبذل حياته لصاحبه؟ الشعب لفرعون أم فرعون للشعب؟!" وهو حسب تفسيره تراجع لمجد الفراعنة التليد ليحل محلّه سؤال من الأزمنة الحديثة، موضوعه "الاغتراب السياسي" لمواطن استلبت السلطة حقوقه "ساءل الروائي الحاضر المصري، موهماً بأنّه يسائل فرعوناً قديما توزع على السماء والأرض، وأنسن الفرعون بسؤال قريب من الاتهام". وعاد بعد أسطر قليلة في العمل نفسه ليوطد سؤاله السياسي بشكل آخر: "هل فرعون عظيم بذاته، أم بشعب جعله عظيماً؟" ويعلق دراج: أكد أن عظمة الفراعنة من عظمة المصريين، وأن "الحاكم العقيم" يكتفي بنفسه وينكر شعبه.

بالمنطق نفسه تعامل محفوظ مع حكايات الفتوات، حيث حولهم بـ"مكر الكتابة" إلى صورة حكام قساة لا يعرفون الرحمة، ليضيء بذلك العلاقة المستمرة بين الكتابة الروائية والسياق السلطوي، مؤكداً على أن الرواية تنهر السلطة الفاسدة وتقاومها. يستدل دراج على ذلك من مقولة محفوظ نفسه: "لا نستطيع أن نفصل عمل الأديب عن الدولة إطلاقاً، وصوت الأديب صوت لا بد أن يهز الدولة بالرضا أو السخط". وإن اقتنع هو من داخله أن "بين السلطة والفن الروائي خصاماً متبادلا، الأولى تقدّس الثبات وطمس الحقيقة، والثاني يتعامل مع المتبدل والمتحول والكشف عن وجوه الواقع والسلطة".

أقنعة أخرى
لكن الأقنعة لا تتوقّف عند هذا الحد، فإن كان القناع الفرعوني في روايات محفوظ الثلاث لم يكن إلا وجه السلطة في الماضي والحاضر أو إدانة لسلطة حاضرة، تتقن الفساد والقمع، وتتطير من الحقيقة كما توصلت الدراسة، فإنه –محفوظ- قد لجأ إلى أقنعة أخرى في كتاباته اللاحقة، كأن يعود إلى الملحمة في "الحرافيش"، أو أن يأخذ "بالأمثولة" في "أولاد حارتنا". في النهاية "حجبت الأقنعة وجوه السلطة في أزمنة متباينة، واختصرتها في مكر حاذر الروائي الكشف عنه. أظهرت جميعاً أن القناع الروائي يلازم أنظمة سياسية، لا تسمح بالتصريح عن الحقيقة".

تتبع دراج فكرة الأقنعة حتى في حياة محفوظ الشخصية، وطبقها على شخصيته المتحفظة نفسها، فرأى أنّه فتن بفوائد القناع إلى حد أنه أدخله إلى حياته اليومية، فيعطي رأيه الحقيقي في رواياته ويعطي تصريحات صحافية بآراء مغايرة. يستعين دراج بما قاله محفوظ لجمال الغيطاني للتدليل على ذلك، فينقل عنه قوله: "وأسأل نجيب محفوظ: أحياناً أجد تناقضاً بين بعض ما تقوله في أحاديثك وبين ما أقرأ في إنتاجك الفني وأجابني باختصار: صدّق إذن العمل الفني". اعتبر دراج أن محفوظ اتخذ من فنه وجهاً صريحاً وحيداً، لذا يصفه في سياق آخر بأنه "مؤرخ الحاضر، وروائي الأزمنة جميعها، التي تجمع بين قديم ابتعد وزمن حديث ويصرحان معاً بحقيقة سلطة تنكر الحرية والعدالة".

الدراسة لا تكتفي بإضاءة النص المحفوظي فقط بل حاولت قراءة رواية محفوظ في استقلالها الذاتي، واستُكملت القراءة بمقارنتها بإنجازات روائية عالمية أخرى، مثل رواية ديستويفسكي، وتوماس مان وبلزاك مع التأكيد على أن محفوظ، المتعدّد والمتجدّد معًا، لم يكن يحاكي أحدًا، بقدر ما كان يحقق حوارًا نوعيًّا بين العوالم الروائية الكبرى، التي تبدأ بالإنسان المغترب وتنتهي به. وأنه طوّر الرواية العربية بينما يطوّر روايته، حيث كتب دائمًا ما يريد منفتحًا على آفاق لا تقبل بالانغلاق، وخلّف وراءه موروثاً روائياً واسعاً لا يمكن النظر إلى تاريخ الرواية العربية من دونه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها