الأحد 2022/07/10

آخر تحديث: 09:29 (بيروت)

دلال زين الدين في "عمامة وجسد"... المهانة وإلتباس الحب

الأحد 2022/07/10
دلال زين الدين في "عمامة وجسد"... المهانة وإلتباس الحب
جسد ليلى بين أحضان الشيخ علي، لا يتجاوز أن يكون نصاً مكمّلاً
increase حجم الخط decrease

 

"سبّي، اصرخي، اعْوي، اعملي متل ما بْتَعْمَل بقية النسوان" (من الرواية).

تشكل رواية "عمامة وجسد" للكاتبة اللبنانية دلال زين الدين بوحاً من نمط آخر... هي رواية لا تتلكّأ عن رفع الحجب عن سرديات متجذرة حول البطولة والصمود والكرامة والرجولة، لنكون إزاء سردية أخرى تشكّل المهانة عنوانها العريض.

على الرغم من أن "عمامة وجسد"، تحفل بالكثير من الأجساد النسائية، بيد أن الجسد المهان في عنوان هذه المادة، يحيل إلى جسد المجتمع الذي تتطرق الرواية إليه: إحدى قرى الجنوب اللبناني في ثمانينيات القرن المنصرم كما تشي الكثير من أحداث الرواية. إنها رواية رفع الحجب، كشف الأقنعة، أوهام البطولة لكنها تبقى بالدرجة الأولى رواية جسد المرأة المهان، وقد سقط في إلتباس الحب، بيد أن ما يشفع للراوية توغلها في هذا الفضح هو وعيها بحقيقة هذا الإلتباس كما بثّته في المتون الأخيرة من قصّها... "عندما تكون فقيراً معدماً، يسهل استدراجك لأي شيء مهما كنت عنيداً ومكابراً، فكيف إذا كان ذلك الشيء هو الحب".

الرواية هي نصّ الذاكرة، لحدث يحفر في الجرح عميقاً، وقد مضى على هذا الحدث خمسة وعشرين عاماً ونيف، عندما عقد الشيخ علي، وهو مسؤول حزبي على ليلى، ابنة الستة عشر عاماً... "بَدّي اعقد عليكي عقد شرعي"، قال الشيخ علي لليلى، لتجد نفسها لأول مرة وحيدة مع رجل غريب قرب مقبرة القرية، حيث الحب كما تمثلته تلك الفتاة في ما بعد، ولمدى العمر هو قرين الموت والأماكن المظلمة والمقفرة، والجثث التي تراقب بصمت، هو حب من نوع آخر كان تبادل القبل عبره "درساً في الغيبيات".

متعة
ثمة اختزال لجسد المرأة في رواية "عمامة وجسد" حتى الحدود الضيقة للعقيدة، وكأني بالجسد في هذا السياق هو ساحة جهاد إنما من نمط آخر، وقد تأسس هذا الجسد على قول في المتعة استُل معناه من معجم الجهاد. إنّ المتعة ها هنا، إنما هي واقعة بلاغية تقوم على جملة من المصطلحات الفقهية، ليكون الفعل الجنسي إزائها أشبه بعمل مخابراتي بسبب ما يكتنفه من سرية وكتمان وغموض.

تجيد زين الدين عبر الكثير من مقاطع روايتها – وهي الرواية الأولى لها – الإضاءة على صيرورة نسف كل التصورات الحديثة للجسد كواقعة "متعالقة مع العالم" إذا أردنا أن نستعير الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي. إن الجسد المنتشي في هذه الرواية، هو في أحد أبعاده ليس بجسد مادي، إذ المتعة التي يسعى خلفها هي أقرب إلى جهاد بيولوجي. فجسد ليلى بين أحضان الشيخ علي، لا يتجاوز أن يكون نصاً مكمّلاً لنص الجهاد وصولاً إلى تحرير فلسطين... "هل ستنساني يوماً ما؟ - تسأل فتاة السادسة عشر- نعم، سأنساك عندما تتحرر فلسطين" يقول الشيخ علي. ومع هذا لا تني الفتاة الصغيرة تغرق في عشق "شيخها" كما تطلق عليه، حتى الحدود الأخيرة للسرد.

حب ملتبس
إنه الفقر والعوز وقد أربكا ذهن الفتاة، لتقع في حبّ ملتبس، يحيل جسدها إلى ساحة جهاد من لحم ودم. ثمة خروج عن التاريخ المنضبط لمن يدّعون الإنتصارات، تمارسه ليلى عبر سرد حيوي سريع، يحفل ببعض ضروب الشعرية، فالذاكرة هي من تحكي هنا والشعرية في هذا المحل قد تكون وسيلة الخيال في الأخذ بالثأر من تاريخ الكلمات المضبوطة على إيقاع من يظنون أنهم يمتلكون ذلك التاريخ.

..."وحدهم الفقراء أمثالنا يوشوشون الله آخر الليل، يحكون له عن أحلامهم".

تعي دلال زين الدين جرأة ما تقدم عليه عبر نص، يجعل من المهموس به محل صراخ بعلياء الصوت، الروائية على وعي كامل بخلخلتها للتاريخ، الراقد المستقر في المجتمع الجنوبي "لكن الذاكرة المتخمة بك تؤنبني كلما تراجعت عن الكتابة عنك"، كما قالت للشيخ علي لترمي بهذا العمل بين يدي القرّاء.

الذاكرة هنا جبهة خلاص، سلاح فتاك لاسترداد الكرامة عبر نص يحفر في قعر تلك الذاكرة، قعر قد طفح بالدنس: "أصبحتْ تلك عادته، يقطع عنا زكاة الخمس كلما غضب من أحدنا... ستكون هذه المرة الأخيرة التي أقبل فيها بتجديد عقد المتعة معه"، بهذا تكلم ليلى الصغيرة نفسها، ومع هذا ثمة جرح عميق الغور، يحيل الكلمات إلى "أدوية المفلسين أمثالي" تقول ابنة الأربعين وهي تستعيد ليلى الصغيرة، ليلى ابنة الستة عشر عاماً، وعلى الرغم من هيامها بـ"شيخها" فإن حبّها له بقي متلعثماً لا يجيد التعبير، فأي حب هو هذا الذي يقوم الخوض في غماره على المعادلة التالية: "رحتُ أقبّلك بنهم وأنا أقف على أطراف أصابعي لقصر قامتي أمام علوّك الشاهق".

يخلخل الإضطراب ذهنها وهي تعيد على نفسها مشهد الشيخ علي، وهو يعمل على تدخين السيجارة المثبتة بين أصابع قدميها كما يحب... "أكاد لا أصدّق أن هذا الذي يأكلني بنهم هو نفسه الشيخ علي، الذي تهتز له منابر الجنوب من أقصاه إلى أقصاه"، لكنها تعود لتستدرك أن الزمن هو زمن حرب حيث كل شيء مباح كي تبقى "وحدها البنادق وأعضاء الرجال منتصبة" في خضم الذود عن الأمة، فالنكاح – إذا أردنا استيفاء الفكرة حقّها عبر الكاتب التونسي عبد الوهاب بو حديبة في كتابه "الجنسانية في الإسلام" – فـ"النكاح يضع الفرد في قلب الأمة". تصير كرامة الجسد في هذا الخضم المنتشر فوق كل بقاع الأرض، تصير الكرامة كما تقول زين الدين على لسان "ليلى الأربعينية"، التي وعت حقيقة الأمر، تصير مثل "علب السردين والمرتديللا والتونة التي قاربت مدة صلاحيتها على الإنتهاء"، ولا يخفى ما لهذه العبارة من دلالات تتعلّق باستراتيجيات قوى الأمر الواقع في تعاطيها مع عالم المحتاجين والفقراء.

النسيان والجهاد
جاء في التراث الفقهي الذي قارب الجسد قول أحد العلماء "إن النظر إلى العورة يورث النسيان"، إلا أن ليلى وبعد مرور ما يتجاوز العقدين على أحداث سردها نراها تتمتع بذاكرة طازجة ربما لخجلها التحديق بـ"عورتها"، كما كان يطلب منها الشيخ علي في تلك الفيللا الفارهة حيث "السجاد العجمي الذي داسني ولم أدسه"، وهو مجاز شديد الدلالة لكنه يتحوّل في متون أخرى إلى المباشرة حين تأخذ ليلى الصغيرة بالتساؤل عن تلك العادات الجديدة التي حادت بأهل الجنوب عما قد اعتادوا عليه في شؤون العبادة والعاشورائية ومجالس البكاء على الحسين لتتكلم في فصول لاحقة عن عادات غريبة عنا دخلت حياتنا وقد صدّرتها إيران إلينا "على طبق شرعي"، لنرى الذاكرة وقد عادت لتنبىء ليلى صاحبة السرد بمشاعر الذل والخيبة، "اكتشفتُ أن حبّه لي كان مهيناً جداً... وكأني بقبول التمتع معه كنت أقوم بمهمة إنسانية بحتة، أسدّ بها جوع إخوتي الصغار لأكثر من عام".

إن انصياع الجسد لمنطق الجهاد في زمن الحرب، أفضى بليلى إلى حزن يستجلب البكاء أبد الدهر..."قلبي البور الذي تحوّل إلى ما يشبه المقام الشيعي"، كل شيء في الحرب مباح حتى الرقص في حضرة "شيخي"، ولكن الفتاة الصغيرة تسأل: "وماذا عن جدران غرفتنا التي تعج بصور الخميني... وغيره؟ كيف سأتمايل أمامهم وأمام عمائمهم؟" لم أكن أتخيّل، تقول ليلى الأربعينية عن ليلى الستة عشر عاماً، كيف لشيخ معمم أن يحضّها على الرقص، لكنها بلاد الكذب الخراب والموت حيث "من السابق لأوانه أن نضحّي من أجلها" وهي العبارة التي أطلقتها ليلى الصغيرة على أثر "استشهاد" شقيقها في معارك حركة أمل البيروتية... فأي بلد هو هذا "الذي تباع كاتمات الصوت على بسطاته كما لو أنها فجل وبقدونس"...

إنها رواية الذاكرة التي خرجت من حيز الكتمان، الذاكرة التي تستشيط وتقرر التمرّد على تاريخ الذل والعار عبر وجاهة الكلمات الحرة، ومع هذا لا يني ذلك التاريخ الذي قد كُرّس كتاريخ "بطولات" و"شهداء" وما شاكل إلا أن ينتصر على ليلى ..."أنا امرأة من مخلفات الحرب ومن مخلفاتك أنت – تقول لشيخها – جافة كقطعة خردة..."، وكي تعزز من هزيمتها نراها تسأل الشيخ علي وقد اكتشفتْ تلصصه على عالمها بعد كل هذه السنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي: "لماذا لم تمت حتى الآن؟ ليجيبها، كنت منشغلاً بتشجيع الآخرين على الموت".

إنه الجحيم الذي لا يأنف عن التشبث بماضيه ليسترق النظر إلى الحاضر بعيون وقحة، هو جحيم جعل من الحب التباساً ومن الجسد خردة...

في "فصل في الجحيم" يقول الشاعر الفرنسي أرثور رامبو "إنّ الحب ... يجب أن يُبتكر من جديد".

لعلّ في هذا البوح الذي لم يصدّه صاد في رواية "عمامة وجسد" ما ينبىء بإعادة ابتكار ليس الحب فحسب إنما كل ما يعيد للإنسان كرامته.

(*) تفتتح دلال روايتها بالإهداء التالي:

إلى معلمتي التي سألتني ذات يوم ما الهدية التي تتمنين الحصول عليها من إدارة المدرسة بمناسبة تفوقك في الدراسة؟ أجبتها: أريد رواية. وعندما حان موعد توزيع الهدايا أهدتني كتاباً في الفقه عن الفرق بين الحيض والاستحاضة... فبكيت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها