الأحد 2022/07/10

آخر تحديث: 08:14 (بيروت)

"إلفيس" باز لورمان.. الفنان سلعة رائجة

الأحد 2022/07/10
increase حجم الخط decrease
دعونا نكون واضحين. إذا سمعت أن باز لورمان سيُخرج فيلماً بيوغرافياً عن حياة إلفيس بريسلي (1935-1977)، فستتخيّل على الفور شيئاً مشابهاً تماماً للمنتج النهائي. قد يعتقد المرء أنه ليس المخرج الأكثر ملاءمة أو توقّعاً لهذا النوع من الأفلام. لكن هذا، بدلاً من كونه مشكلة، يمكن أن يصبح ميزة، على ضوء معرفة المُشاهد بما يمتلكه المخرج الأسترالي من خيال متفرّد وفيّاض يمكنه أخذ مشروع من هذا النوع إلى أي مكان حرفياً. يحدث هذا في فيلمه الجديد "إلفيس"(*)، إنما من دون تطريز النتائج بالتوفيق الدائم.


حين ظهرت موسيقى الروك أند رول في الولايات المتحدة، أواخر الأربعينيات أوائل الخمسينيات، لم تكن مجرد شكل موسيقي جديد، وإنما عملية إعادة تعريف أنماط الحياة، وتحوُّل العلاقات بين الجنسين والعلاقات العرقية. وهذا بالطبع لا يعني أن التناقضات الثقافية والاجتماعية لأميركا في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي قد حُلّت مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن منذ بداية تلك الثورة لم يعد هناك شيء كما كان قبلها، وظهر المجتمع الأميركي كله مختلفاً وعميقاً. بمرور الوقت، أصبح إلفيس بريسلي اسماً متعدّد المعاني ومفتاحاً لفهم هذه العملية المركّبة: لم يعد النشاط الجنسي مرتبطاً بالتكاثر الأسري فحسب وإنما بالتمتّع أيضاً (خاصة الأنثى)، وموسيقى السود وجدت طريقها لأسماع الأغلبية البيضاء، وبدأ بزوغ نجوم ثقافة البوب المؤثرين. إلفيس إذاً رمز ثقافة البوب والاستهلاك، في نسختها الأميركية.

يغطّي الفيلم حياة "ملك الروك أند رول"، مُركّزاً على مرحلتين أساسيتين: بداية حياته المهنية عام 1955 حتى مغادرته للخدمة العسكرية في ألمانيا عام 1960، وعودته المظفّرة في العام 1968، وذلك بفضل عرض تلفزيوني - صار كلاسيكياً الآن - وما تلاه من بقائه - لفترة أطول من المخطط - في القيام بعرضه الحي في لاس فيغاس. لكن الأمر الرئيسي الذي يجب رؤيته هنا لا يمرّ عبر رحلة السيرة الذاتية المعروفة للفنان، وإنما يتعلّق بفكّ شفرات ومغالق أفكار لورمان بشأن بطل فيلمه. والحقيقة أنه في ما وراء المقاطع/ الكليبات المكلفة والنابضة بالحياة المتناثرة بطول الفيلم، واللائقة بصانع أفلام يعتقد أن رواية قصة مدتها 160 دقيقة ليس إلا "تريلر" طويل لنفسه دون سواها؛ ليس هناك الكثير من الأفكار.
 

بدايات الحياة المهنية تُروى ببراعة من خلال استخدام موارد وأساليب الرواية المصورة، التي أُعجب بها بريسلي في مراهقته. وبوابلٍ من صورٍ سريعة ومؤثرة وشبابية في نبرتها، يروي لورمان قصة اكتشاف بريسلي ونجاحه الاستهلالي، ذلك الحماس والتوهج المعتاد من المخرج في بداية أفلامه، حيث يفيض كل شيء بالطاقة. هنا، مع ذلك، يحضر "الجانب المظلم للقوة" منذ البداية. الأمر يتعلّق بمن يسمّى "العقيد باركر" (توم هانكس تحت كيلوغرامات من المكياج)، الرجل الذي اكتشف ورعى إلفيس في شبابه ولم يتركه حتى وفاته، وفي الأثناء أدار حياته المهنية بطريقة قاسية ومنحرفة تماماً.


يُقدّم "إلفيس" باعتباره قصة التلاعب بشاب بريء من قِبل مستغل وحشي، ولأسباب مختلفة تتغير على مرّ السنين، لم يتمكّن الأول أبداً من كسر الفخّ الذي وضعه باركر فيه. للأمر بُعد تعاقدي والتزامي، ولكنه سيكولوجي في الأساس، لأنه في كل مرة يحاول بريسلي فتح طريقه الخاص، يغيّر مدير أعماله مصيره وفقاً لمصالحه. في خمسينيات القرن الماضي، مرّت الأمور بسلام ووفت بمراد الإثنين، لكن منذ العام 1960 فصاعداً لم يعودا كذلك. في الواقع، تظهر هنا عودة إلفيس في أواخر الستينيات على أنها تمّت ضد رغبات مديره.

يلتقط الممثل أوستن بتلر حيوية وكهربة بريسلي بطريقة تثير الإعجاب، لا سيما في مرحلته من عام 1968 فصاعداُ، محاكياً إلى حدّ الكمال تقريباً نسخة بريسلي كما يمكن رؤيتها في العرض التلفزيوني الشهير  لصالح شبكة "إن بي سي" أو في الفيلم الوثائقي الممتاز "إلفيس: هكذا"، المأخوذ منه بعض اللقطات هنا فضلاً عن اقتباس لورمان أسلوب مونتاج فيلمه منه. يركّز لورمان على الأداء المسرحي لبطله ويهتم بإظهاره من الخصر إلى الأسفل أكثر من أي شيء آخر. وهو أمر منطقي – إذ كانت حركاته الحوضية ثورية وشائنة في منتصف الخمسينيات - لكن من الصعب الحكم على أداء ساقي الممثل الشاب.


يخفّض لورمان هيجان عروضه الصوتية عندما يبدأ الفيلم بمرحلته الثانية، مع عودة البطل إلى المسرح واستعادة "جوهره" في العام 1968. من اللافت التذكير بأنه كان يبلغ من العمر 33 عاماً فقط في ذلك الوقت، عندما اعتبره كثيرون منتهياً، حيث قضى معظم هذا العقد في إنتاج أفلام سيئة وإصدار ألبومات أضعف، وفقاً لنصائح باركر، الذي فقد بوصلة فنانه التجارية عندما بدأ عقد البيتلز ورولينغ ستونز ولم يستردها أبداً.

عودته إلى الشاشة في البرنامج التلفزيوني ثم افتتاح فندق "انترناشونال" في لاس فيغاس حيث سيؤدي أغنياته لسنوات وسنوات، يولّدان أفضل لحظات الفيلم، بجمعها بين مرحلة موسيقية رائعة مع لحظة استعاد فيها إلفيس ثقته، وتعرّفه على المزيد من الأشخاص يشابهونه في التفكير، ومن ثمّ القتال بمواجهة باركر. لكن السيئ في الأمر، أن المدير الوحشي سيفوز في تلك المعركة النفسية والتجارية، ويحوّله تقريباً إلى عبدٍ منذور لحفلات الكازينوهات حتى وفاته عملياً. تراجُع بريسلي وتدهور مسيرته يعطيان وزناً دراماتيكياً للقصة، لم يكن موجوداً من قبل، يوظّفه لورمان بذكاء بحكم خبرته في التعامل مع تلك الصيغ والبنى في أفلامه الموسيقية، والمتأتية بدورها من حبّه للأوبرا والتراجيديات المسرحية.

تبقى المشكلة الرئيسة في "إلفيس" هي وجهة النظر المروي منها الحكاية وخواء الكثير من تطوراتها، إلى أن تجد عصبها الدرامي في النصف الثاني من الفيلم (أي بعد ساعة ونصف تقريباً). اختيار باركر، وهو شخصية مثيرة للاشمئزاز، راوياً وبطلاً للقصة تقريباً؛ قد يكون خياراً مفهوماً ولكنه معقّد بشكل كبير ويقلّل من قيمة الفيلم، بما إنه لا مكان تقريباً لإيلاء بعض التقدير للشخصية الرهيبة التي يجسّدها هانكس كما لو كان شريراً خارجاً من روايات "دي سي كوميكس". الأمر يشبه رواية سيرة بريتني سبيرز من منظور والدها.

الوضع أكثر إيجابية في الجانب الموسيقي، إذ تضفي الموسيقى على الفيلم موضوعية وإثارة مفقودين على المستوى الدرامي. يقوم لورمان بعملٍ مشابه لأفلامه الأخرى، إذ يجمع نسخاً من أغنيات إلفيس، ويمزج العديد منها معاً (وهو ما كان يفعله كثيراً) مضيفاً إليها إيقاعات حديثة ومعاصرة (مثل Doja Cat وJack White وJazmine Sullivan وDenzel Curry وEminem)، مثلما فعل في فيلمه الأشهر "مولان روج" (2001). في الواقع، حقق إلفيس نفسه أحد أكبر نجاحاته في العام 2002 مع ريمكس لأغنية "A Little Less Conversation"، وأحياناً، ما يحاول المخرج القيام به هنا هو السير في مسار مشابه لما نجح هناك.

أما محاولة الفيلم إعادة تقديم بريسلي كفنّان "تقدمي"، يقلق ويهتم بشأن الواقع الاجتماعي لبلده في ستينياتها المعقدة والملتهبة، فهذا مسعى لا ينجح كثيراً طالما ظلّت صورته كنصير للحقوق المدنية محصورة في أذهان المعدودين، فيما تلتصق به بشكل أوثق ذكرى تعاونه مع الرئيس سيئ السمعة ريتشارد نيكسون. وباستثناء بعض الأغاني التي تتحدث عن "التسامح" مثل "إذا كان بإمكاني أن أحلم"، التي قدّمها في العرض التلفزيوني إياه، على غير رغبة باركر (الذي لم يرغب في رؤيته "متورطاً في السياسة" وكان مهووساً بألا يترك موكّله البلد، لأسباب سيكشفها الفيلم شيئاً فشيئاً)؛ يقدّم الفيلم نسخة خفيفة ومهذّبة جداً لشخصية معروفة بوجود جوانب أغمق وأظلم من تلك المعروضة هنا.

والحال أن الفيلم، بالرغم من كونه فارغاً بعض الشيء في ما وراء بهرجته وبذخه البصريين، فضلاً عن بدايته المملة والمضجرة قليلاً؛ ينتهي به الأمر بتقديم مادة غنية بما يكفي لمُشاهد غير منغمس في سيرة وشخصية "العازف المنفرد الأكثر مبيعاً في التاريخ"، ليكون مهتماً بالاستماع إلى/ ومعرفة المزيد عن عمله. وهنا من الضروري العودة إلى البداية، حجر الزاوية لكل ما كانه بريسلي لاحقاً، وخاصة تسجيلاته لصالح شركة "صَن ريكوردز"، والتي قُصّت وأعيد دمجها هنا. في السنوات الأخيرة، مع ظهور إصدارات جديدة لأغنياته ركزّت على تسجيلاته لعام 1969، نعثر على إلفيس آخر يستحق إعادة النظر والتأمل. فنانٌ ناضج، أراد أن يحظى بمرحلة ثانية مجيدة في حياته المهنية المعقدة لكنه لم يطوّرها أبداً - أو على الأقل هذه هي أطروحة الكثيرين التي يدعمها لورمان هنا - بسبب مدير أعمال لم يتوقف أبداً عن اعتباره سلعة.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها