السبت 2022/07/02

آخر تحديث: 10:21 (بيروت)

اغتصاب"الثقافة البديلة": كيف تردّ مؤسساتها؟

السبت 2022/07/02
اغتصاب"الثقافة البديلة": كيف تردّ مؤسساتها؟
increase حجم الخط decrease
ككل جريمة أخرى، تحمل جريمة اغتصاب فاطمة فؤاد والتستر عليها، بُعدَين، أولهما جنائي بتبعات قانونية وعدلية، والآخر أخلاقي. بشكل عام، يمكننا اعتبار الجنائي نتاجاً تاريخياً لبقرطة (من بيروقراطية) الأخلاقي وتنصيصه في قوانين ومؤسسات تقوم بإنفاذها. في هذا، يتخلّى المجتمع عن مهمة الأخلاقي لصالح الدولة، ويسلم أفراده بالطبيعة الإدارية للأخلاق في صورتها المقننة هذه، سواء كان هذا قد تم طوعاً أو قسراً. إلا أن هذا التخلي لا يجوز اعتباره شاملاً بأي حال، فحتى الدولة في جانب أدواتها القسرية ذات الطبيعة القانونية، مثل المحكمة والسجن، تحتفظ بأدواتها الأيديولوجية، كالمدرسة والجامعة، وذلك للعمل في الحقل الأخلاقي وبمفردات لغته الضميرية.

أما في ما يخص المجتمع، فبالإضافة إلى المؤسسات الروحية، مثل دور العبادة والهيئات الدينية، فإن هيئاته المستقلة والوسيطة، كالنقابات والشركات والجمعيات الأهلية واتحادات أصحاب المصالح، تعتمد رموزها أو أكوادها الأخلاقية الخاصة وسياسات إنفاذها. يسرى الأمر نفسه، على الحقول الأقل تنظيماً والتي تربط أطرافها وشائج معنوية أكثر منها بيروقراطية. فعلى سبيل المثال، تنتج الحقول الثقافية آليات تقويم أخلاقي داخلية يفعلها الناشطون في تلك الحقول نفسها، وكذا تخضع لضغوط خارجية من جمهورها والرأي العام والمؤسسات الممولة. في هذا السياق، توظف أدوات مثل الفضيحة والاعترافات المجهلة كقنوات للادعاء، أما آليات الوصم والتنصل والعزل المعنوي وفك الشراكات، فتؤدي دور العقوبات، وبالأخص في مجالات تعدّ فيها السمعة رأسمالاً معنوياً أساسياً.

من الناحية الجنائية، لا يتوهم أحد إمكانية إنفاذ القانون في قضية فاطمة، ولا حتى مثول الجناة أو المتواطئين أمام القضاء. فطبيعة جرائم الاعتداء الجنسي بالعموم تجعل نسب الإدانة في قضاياها شديدة التدني، وبالأخص في مجتمعات ومؤسسات تحكمها قيم ذكورية وتفتقد هيئات الدولة فيها للكفاءة والمصداقية. أما وقد مر على الجريمة أكثر من عامين، فتغدو احتمالية المحاسبة مستحيلة بشكل شبه مؤكد. تعرف فاطمة هذا، كما يعرفه المتهمون وكذا الجمهور العريض. لذا لا يتاح أمامها، مثلها مثل الكثير من الناجيات، سوى الإشهار، وهو ما فعلته في بيانها الذي فصّل ملابسات الجريمة والمتورطين فيها وفي التواطؤ عليها. يأتي الإشهار بمفاعيل التحذير والوصم والاستدعاء، الأول لصالح تنبيه الجمهور العام حتى لا تتكرر الجريمة وحتى لا يتاح للجناة تكرارها، والثاني كعقوبة مباشرة وفورية تستهدف سمعة المتورطين والخصم من رأسمالهم المعنوي، أما الثالث فموجه إلى الحقل الثقافي المعني ومؤسساته بغية التحقيق والفرز الأخلاقي ومراجعة قواعد أمانه وهياكله الإدارية والأخلاقية. في هذه الحالة، تختص مفاعيل التحذير والوصم بتأثير فوري ومباشر، ووقتي أيضاً بالضرورة، أي مؤقت وسريع الزوال. أما في ما يخص الاستدعاء، وهو ما يعنينا هنا، فموجّه إلى الحقل المعني، وهو هنا المساحة التي يتقاطع فيها المشهد الموسيقي البديل مع مؤسسات الصحافة البديلة والهيئات الثقافية المُمَوِّلة لكليهما، ويأتي ذلك الاستدعاء على أمل تغييرات أعمق بشكل هيكلي وأطول ديمومة. 

على حين غرة، تجد مؤسسات الثقافة البديلة نفسها في مواجهة منعطف وجودي واختبار يضع سمعتها إجمالاً على المحك، فالتفاصيل المروعة لشهادة فاطمة والشهادات المتتابعة من العاملين السابقين في "معازف"(الجهة المتهمة إدارتها بالتقصير والتواطؤ)، تكشف تغلغل مستويات مرعبة ومنهجية ومزمنة من العنف البدني والجنسي والمعنوي، في أوساط الثقافة البديلة. والمروع أكثر هو الدلائل الدامغة على ثقافة السرية والتواطؤ والصمت والتغطية على كل هذا العنف، والأدلة على مدى حصانة وتنفّذ مرتكبيه في الوسط الثقافي البديل. 

شبكة "فبراير"، وهي تجمع يضم منصّات للصحافة البديلة، تصدر بياناً يتضامن مع فاطمة ويدين الجريمة ومرتكبيها. إلا أن البيان سرعان ما يجلب استهجان البعض، فالشبكة تشير إلى "تواصل" مع "إدارة جديدة" في "معازف" بشأن تحقيقات في القضية. وهو الأمر الذي رفضته فاطمة نفسها، وعاملون سابقون في "معازف"، فبيان الشبكة يمنح مصداقية لتلك "الإدارة الجديدة". وهو ما ينكره بيان العاملين السابقين، بالقول إن مدير موقع "معازف" وهو المتهم الرئيس بالتواطؤ، هو المالك أيضاً، وفي هذه الحالة لا يصح الحديث لا عن إدارة جديدة ولا قديمة. تكمن المعضلة هنا، في الاقتصاد السياسي لمؤسسات الثقافة البديلة. ففي حالتنا هذه، تقف "معازف" كمثال، شركة ذات مسؤولية محدودة مسجلة في بريطانيا، ويمتلك النسبة الحاكمة منها مديرها، وهو ما يضعها في مصاف المشروع الفردي والملكية الشخصية. تشير تفاصيل الشهادات المتتابعة، إلى أن البنية القانونية للشركة وطبيعة ملكيتها قد ساهمت في مركزة عملية اتخاذ القرار بشكل شبه مطلق. وفي غياب أي آليات داخلية للمراجعة والمحاسبة، تبدو تفاصيل القضية المكشوف عنها كنتاج منهجي لبنية غير سوية، وليست مجرد تجاوزات عابرة. 

الجهات المانحة، تتمتع بموقع مريح نسبياً. يصدر "المورد الثقافي" بياناً قوياً في إدانته للجريمة وأطرافها وتضامنه مع صاحبة الشهادة، ويتنصل من "معازف" تحديداً وينفي أي شراكة حالية معها. بدورها، تصدر"آفاق" بياناً في المستوى نفسه من الوضوح في دعم فاطمة وإدانة الجناة، وتعلن المؤسسة أيضاً إلغاء شراكتها الفنية مع "معازف" بشأن حفلة ستقام بعد أيام. لكن ما لا تقر به الجهات المانحة في بياناتها هو مدى تورطها في خلق تلك البيئة الزاخرة بإمكانات العنف والتغطية عليه، فتصمت عن تمويلاتها السابقة لجهات مثل "معازف"، تفتقد بنيتها الداخلية للحدود الدنيا من المأسسة وآليات الرقابة ووسائل المحاسبة الذاتية أو الخارجية.

بالطبع سيكون من المبكر الحكم على تبعات القضية المزلزلة، وربما ينبغي علينا الانتظار بضعة أشهر قبل الوصول إلى أي أحكام، إلا أن الدلائل المبدئية ربما تشير إلى غياب الرغبة في مراجعة واسعة وحقيقية لقواعد حقل الثقافة البديلة، وإلى اكتفاء المؤسسات المعنية أما بالتنصل من "معازف" بغية تقديمها ككبش فداء، أو إيجاد مخرج خلفي لها عبر التصديق على إدارتها "الجديدة". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها