ثم يستعرض مالك كل دولة عربية أو إسلامية في المنطقة، ويبيّن مشكلات تطورها لإظهار أنّ وحدتها وهمية، وأن ما يوحدها توحيداً سلبياً هو خلق إسرائيل على أيدي القوى الغربية. ويصر على أن السياسة العالمية لها بُعدان، ثقافي وروحاني، ولا يمكن اختزالها في صراع على الموراد الطبيعية. وبلغة المجاز، يمكن القول إن الصراع كما تصوره فاعلوه الأساسيون وعاشوه، لم يقتصر على الأرض فقط، بل شمل أبناء اسحاق واسماعيل: "هناك هوة عميقة بين اسرائيل وبقية الشرق الأدنى... التاريخ لم يشهد مثالاً كهذا على شعب يكن عداء أبدياً مع عالمه المباشر". وعلى الغرب أن يتعلم أن الإسلام ليس ديناً فقط، بل هو نظرة كلية ظل فهمها نادراً، رغم أن تقدماً أولياً حصل في الأبحاث الرائدة التي اضطلع بها كل من ألبرت حوراني، لويس ماسينيون، وفيليب حتي، وقسطنطين زريق، وهذه هي الأسماء التي كان سعيد يقرأها للمرة الأولى، وهي أسماء رسخت في ذاكرته. حدّد مالك في هذه المقالة حصول المعرفة الأساسية التي ينبغي استقصاؤها إن أريد التوصل الى فهم ثقافي.
وسعيد كان أشد تحفظاً في ما يتصل بالتأثيرات الهايدغرية في عمل مالك، ورفضها بالروح ذاتها التي رفض فيها تحاملات مالك على الإسلام. وعلى الرغم من اعتراف مالك بالمركزية الثقافية للإسلام في الهوية العربية، فإن عنجهيته الطائفية ومديحه الذي لا تحدّه حدود لمنجزات أوروبا الروحية، قادا سعيد في اتجاه ما هو غير أوروبي، وأعطياه شعوراً رافضاً رافقه طوال حياته بكراهية العداء للشيوعية بكل أشكاله. على أن الدور السياسي لمالك، في النقاط الحساسة، صار إشكالياً عندما تكشّف... والحرب أو الحروب المتداخلة والكثيرة في الشرق الأوسط، أفضت إلى تصدّع في مواقف مالك واللجوء الى الهويات الضيقة والشوفينية المسيحية، وهذا يبينه إدوارد سعيد في مذكراته التي نشرها بعنوان "خارج المكان"(ترجمة فواز طرابلسي-دار الآداب). ففي صيف 1958، اندلعتْ حرب أهلية صغيرة في لبنان، بين أنصار كميل شمعون، الرئيس الماروني غربي الهوى آنذاك والذي كان يرغب في تجديد ولايته (على نحو مناف للدستور)، وبين عناصر الأحزاب العروبية أو مناصريها، المسلمين في غالبيتهم، ويقول إدوارد سعيد: "كان ذلك هو الصيف الوحيد منذ العام 1943 الذي لم نقصد فيه ضهور الشوير كالمعتاد. فالهضاب المشرفة على البلدة تعجّ بالجنود الأميركيين، الذين أرسلهم جون فوستر دالس إلى هناك لتعزيز القوى الموالية للغرب من أنصار شمعون، على اعتبار أن خصومهم بحسب الخطاب التهييجي السائد آنذاك، هم عملاء موسكو من الماركسيين اللينينيين".
يضيف سعيد: "عند هذا التقاطع القلق، والمزعج معظم الأحيان، من التيارات، سرعان ما اكتسبت أمي موقع الناصرية المؤمنة الصادقة، على العكس تمام من أبناء خؤولتها وأصدقائها من المنضوين في تنظيمات اليمين المتطرف والذي لا يقلون عنها جموداً عقائدياً، كانت تقول دائماً: الذي يحسب لهم حساب هم البواب والسائق والعامل الذين غيرت إصلاحات عبد الناصر حياتهم ومنحتهم العزة والكرامة". ويقول سعيد: "لا شك أن السير عكس تربيتها تطلب مقداراً لا بأس به من الشجاعة. فبعد العام 1958، صارت الضهور تبدو لنا اكثر جفاء، وصار أصدقاؤنا أقلّ وثوقاً، والشروخ أوسع. وغربتنا أوضح، وبحلول العام 1962، جزئياً بسبب تعافي أبي البطيء، استأجر اهلي وشقيقاتي شقة في بيروت، تاركين القاهرة تتوارى مع الاضمحلال البطيء لعالم طفولتنا". ويسترسل قائلاً بأن شخصية شارل مالك الجذابة والكاريزمية ظهرت خلال تلك الفترة.. "لم يكن السفير اللبناني السابق في الولايات المتحدة وحسب، ولا مجرد زوج ابنة خال أمي ايفا، وانما وزير الخارجية في عهد شمعون، وهو منصب جعله مسؤولاً مباشرة عن مناشدة دالس ارسال قوات أميركية الى لبنان"، و"مع حلول السبعينيات كان قد تحول إلى رمز وناطق فكري باسم كلّ ما هو متغرض وسجالي ومتنافر مع الشرق الأوسط العربي ذي الأكثرية الإسلامية. بدأ حياته العامة في أواخر الاربعينيات ناطقاً باسم العرب بصدد قضية فلسطين في الأمم المتحدة، وختمها مهندس السياسة المعادية للفلسطينيين في التحالف المسيحي مع اسرائيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية". وما بين مرحلة الولاء لفلسطين والتعاون مع حلفاء اسرائيل، كان موقفه البارد من حرب 1967. فصاحب "الاستشراق" قصد منزل مالك في الرابية لغرض لا يذكره، وخلال جلستهما، طلب من مالك أن يساعد على قيادة العرب للتخلص من هزيمتهم المنكرة. يقول سعيد: "لعلها فكرة سخيفة ولكنها بدت أنها تستحق العمل من أجلها. أما ما لم أكن مستعداً له فهو جوابه المستكين، وعلى غير عادته، ليس هذا الوقت المناسب، وهو لا يشعر بأنه له دوراً ما يلعبه بعد الآن، وان عودته الى النشاط السياسي تنتظر قيام وضع جديد في المنطقة.. صعقت لما سمعته ودهشت لأن رجلاً كنت ما أزال اؤمن بآرائه والتزاماته لا يشاركني في ما افترضت أنه حاجة جماعية للمقاومة وإعادة البناء.
في الحوار الذي أجراه معه فيليب لوبات، يقول إدوارد سعيد: "كان مالك قدوتي أثناء نشأتي؛ شخص درس على يد هايدغر. بالطبع، لم أكن أعرف الكثير عن ماضي هايدغر، لذلك ربما لم يكن علي أن أتفاجأ، لكنه مثّل التفتيش وراء معرفة الحقيقة. كان لديه حضور لا يصدق. كان فيلسوفًا سقراطيًا، تأمليًا، فذًا وساخرًا إلى حد ما. لكن مع مرور الوقت، في أواخر السبعينيات، كلما عرفت عن مالك أكثر كلما أصبحت الأمور أكثر بؤسًا. بعدما كان سفيرًا لبنانيًا في الولايات المتحدة، بات يرى أن الشيوعيين يجب أن يُقتلوا، والمسلمون هم هذا، أو ذاك، أو أي شيء آخر ... لقد كان تحولاً قبيحًا لم أقدر على استيعابه أبدًا"...
وبرغم القرابة والنسب بين سعيد ومالك، لكن السياسة انعكست على علاقتهما، خصوصاً عندما توفي والد سعيد، لم يذهب مالك الى الجنازة، متذرعًا بأنه "يتناول غداءً مهمًا للغاية مع المبعوث البابوي"، وبإزاء هذا قال سعيد "أنا لم أسامحه أبدًا على ذلك. كان والدي من أوائل من قدموا له الرعاية. على أي حال، لا يزال هناك كثير من الناس معجبين به (شارل مالك)، وهناك شوارع في بيروت سميت باسمه. أشعر أنه قام بشيء لم يكن يجب عليه القيام به. بعبارة أخرى، أعتقد أنه تحول من كونه مستشارًا روحيًا لكونه مستشارًا سياسيًا. وبالنسبة لنا، كفلسطينيين، كان من الصعب جدًا تقبُّل ذلك بسبب المجازر".
(*) صدرت النسخة العربية من كتاب "إدوارد سعيد أماكن الفكر" لتيموثي برينان، مدرس العلوم الإنسانية بجامعة منيسوتا في الولايات المتحدة، ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، بترجمة محمد عصفور.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها