الثلاثاء 2022/06/07

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

كريستيان غازي: صناعة الثورة وتصويبها

الثلاثاء 2022/06/07
increase حجم الخط decrease
من بين الأفلام التي عُرضت في مهرجان السينما الفلسطينية "لماذا المقاومة"(*) (1971) و"مئة وجه ليوم واحد" (1971) للمخرج اللبناني كريستيان غازي(1934 – 2013)، هما بمثابة مخطوطات قديمة لشاعر منسي، وقد رممت بجهد كبير، ووضِعتْ أمامنا، نحن الجمهور، لكي نتدبر أمورنا حيالها. قد يكون أول ما يجعل هذا التدبّر صعباً هو أن الفيلمين سرعان ما يحولانه إلى تدرب على تجنب النوستالجيا الثورية التي يبعثان عليها، وبالتالي، السعي إلى النظر اليهما بمعزل عنها. هذا النظر قد يصح بالانطلاق من أربع جهات.

الجهة الأولى هي أنّ الفيلمين، ورغم أن الأول، أي "المقاومة لماذا"، وثائقي، والثاني، أي "مئة وجه ليوم واحد"، تخييلي. هما شريطان يمكن وضعهما في خانة الالتزام، لكن ما هو إلتزام غازي؟ يمكن القول إنه إلتزام بجعل كاميراته حمّالة ومصدّرة لخطاب تحرري، إما تذهب الى من يقدمه ويصيغه ويشكله، تماماً كما حين قابلت غسان كنفاني متحدثاً عن الثورة كطريق نحو فلسطين دولة علمانية، أو أنها تذهب للإشارة إلى ظروفه ثم إلى صناعته، كما فعلت حيال حياة الفدائيين اليومية. بالطبع، الفِعلان هنا ليسا منقطعين عن بعضهما البعض، فحين تقابل الكاميرا كنفاني لتوثق خطابه، فهي تعمد إلى ذلك بضمّه إلى غيره ثم تفتش عما يلتقطان به في عيش الفلسطينيين كما لو أنّه تضعه على محك هذا العيش. وحين تمضي إلى صناعة ذلك الخطاب في العيش نفسه، تظهر أنّها أيضاً توثقه عبر الإشارة إلى ظروفه التي تبدو منتجة له. في الواقع، وبحسب الفيلمين، لا يمكن فصل وثائقية غازي عن تخييليته، إذ إنّ الالتزام فيهما يجعلهما امتدادين لبعضهما البعض، لا سيما أنهما يلمان بخطاب بعينه عن فلسطين بما هي قضية كونية.

الجهة الثانية تتعلق بكون عمل غازي السينمائية يتسم بشيء محدد، وهو يحضر في فيلم "مئة وجه ليوم واحد" أكثر مما يشتمل "المقاومة لماذا"، أي النقد. بالتأكيد، يمكن القول إنّه "نقد من الداخل"، من داخل الخطاب نفسه، بحيث أن كاميرا غازي تأخذ على عاتقها أن تبرز "تقصير" هذا الخطاب حيال ما يَعِد به. على هذا النحو، في "مئة وجه"، هناك نقد لكون الثورة لم تحقق بعد ما قدمته من شعارات، من قبيل مشاريع اجتماعية وسواها لكي تحتوي كل مجتمعها، وتنقله إلى زمن جديد. يقدم غازي ذلك من باب مطالبتها بأن تحقق كل وعودها، فعدسته لا تهتم بتظهيرها فحسب، لكنها، في الوقت نفسه، تكترث بتصويبها لكي تكون ما هي عليه.

(المخرج الراحل كريستيان غازي)

الجهة الثالثة ترتبط بسخرية غازي، التي لا يمكن سوى وصلها بشِعريته، التي تحمله، وفي أثناء تعقبه ذلك الخطاب، إلى الوقوع فيه على ما يبدو كاريكاتورياً. هنا لا بد من ملاحظة، وهي أن فيلمي غازي، ولأنهما مرممان، فهذا ضاعف من السخرية تلك، خصوصاً في فيلم "مئة وجه ليوم واحد". إذ تحضر في مشاهد عن البرجوازية التي يبين غازي التفاوت الصراعي بين عيشها وعيش الفلسطينيات والفلسطينيين، وخلال ذلك، قد يأخذ بهذه المشاهد إلى مكان، تنقلب فيها الى ما يشبه كولاج تهكمي عن أصحابها. علاقة هذه الفكاهة بشعرية غازي تقوم بكون الثانية هي ظرف الأولى، بمعنى أن هذه الشعرية تتيح للمخرج أن يبتعد، ولو قليلاً، عن همه الأساس، بما هو الخطاب نفسه، لكي يتناول سواه من دون أي احساس بكونه يخون "الهم الأول والأخير". بالإضافة الى ذلك، شعرية غازي، وبمعزل عن السخرية، تبرز بالنصوص التي يعتمدها في أفلامه، التي يكتبها ويقتبسها لتكون كاميرا أخرى فيه، أي أنها تخرجه على طريقتها. ففي فيلمي غازي، هناك فيلمان مصوران، وهناك فيلمان نصان أيضاً.

الجهة الرابعة على صلة بكون فيلمي غازي وثيقتين على تحويل القوى الظلامية، كحماس وحزب الله وسواهما، لقضية فلسطين المحتلة، من قضية "ثورو-كونية" إلى قضية محلية مطبوعة ببُعد ديني متطرّف. فالفيلمان بيّنا أن تلك القضية كانت محمولة على خطاب يجعل منها نقطة لقاء لقضايا مختلفة وعابرة للعالم، من الصراع الطبقي إلى تخطي حدود الجنسيات، ومن النضال النسوي إلى الديموقراطية. وبإبرازهما ذلك، جعلا من مشاهدتهما دافعاً الى مقارنة خطابهما بالخطاب الراهن، الذي حوّل، بمعية تنظيماته وحركاته، تلك القضية إلى نقطة افتراق كل القضايا، وبالتالي، استولى عليها، وأقصى الغالب من الفلسطينيين منها. بهذا المعنى، يتحدث فيلما غازي عن استيطان خطاب الفلسطينيين وذاكرتهم من قِبل تلك القوى الظلامية التي وضعت يدها على تواريخهم، ومحتها. 
(*) "لماذا المقاومة": يقدمه "نادي لكل الناس" الساعة الثامنة مساء غدٍ الأربعاء ـــ "متحف سرسق" (الأشرفية) ـــ العرض مجاني ـــ للاستعلام: sursock.museum
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها