الأحد 2022/06/05

آخر تحديث: 18:21 (بيروت)

رسائل المنتحرين

الأحد 2022/06/05
رسائل المنتحرين
خليل حاوي
increase حجم الخط decrease
(*)لا بدّ لكاتب أو متابع من جيلي، أنْ يتذكّر انتحار رالف رزق الله، الكاتب واستاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية، من خلال إلقاء نفسه عن صخرة الروشة في صباح السبت 28 تشرين الأول 1995، كان في الخامسة والأربعين من عمره. كاد الجميع يوقنون أنه انتحر رفضاً لـ"أمراض المدينة"، و"رفضاً للواقع"، أي أنه اختار الموت الرواقي. ورجح بعضهم ان يكون قدّم ما اختاره، في ما كتبه أو دوّنه في مقالته "مدخل الى التعاسة" (ملحق "النهار" 9/9/1995) على طريقته وفي الاتجاه الذي يرضي تحليلاته. يستنبط القارئ من مقالة رزق الله نفحة تشاؤمية اكتئابية حادة، وفحواها أن كلّ شيء يصل إلى جدار مسدود، حتى وإن تكلل بالغار والورد والنجاح وبنى مملكة وحقّق أحلامه، المقال دعوة صريحة إلى اللاجدوى والعدم.

"كان يدعى رالف رزق الله. في صباح السبت 28 تشرين الأول 1995، أوقف سيّارته التويوتا الخضراء بمحاذاة الرصيف أمام مقهى دبيبو، ثم ترجل منها مسرعاً، وتسلق الحافة الحجرية القصيرة، وقفز إلى الفضاء. قبل أن يقفز شرّع ذراعيه كالصليب، خلفه بيروت، وقبالته صخرة الروشة. كان يرتدي بنطلونه الجينز القديم، والقميص الكاكي الذي اشتراه قبل سنتين. كان في الخامسة والأربعين من عمره. ورمى نفسه، هوى عن علو خمسة وأربعين متراً، وارتطم بالصخور. ثم طفا على وجه المياه. هكذا انتهى كل شيء". هكذا كانت افتتاحية رواية "رالف رزق الله في المرآة"، لربيع جابر. وتعاسة رالف رزق الله، هي مدخل لقراءة جوانب من رسائل المنتحرين في العالم العربي والعالم، ردًا على "القهر" المجتمعي والسياسي والنفسي والفشل في الحب وأمور أخرى. وإذا كانت سياسة الأنظمة الشمولية انعكست على بعض التجارب الحياتية والفردية... والحب ومعجمه كان مدوياً في بعض التجارب الحياتية (الشعراء أنطون مشحور، عبدالله الصوفي، خليل حاوي)، لكن هذه تبقى عناوين عريضة للموت الإرادي التي يرتبط بتفاصيل ومسارات وحيثيات، لا تختصر بكلمات أو تكهنات ووصايا قصيرة أو تأويلات ايديولوجية، كما هو الحال في ربط انتحار خليل حاوي بالاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982.


والحال أنه برغم كل ما قيل عن أزمات خليل حاوي العاطفية والوجدانية، لايزال بعضهم يكتب بأنه (تمرّ غدا الذكرى الـ40 لرحيله) انتحر "احتجاجاً على غزو الكيان الصهيوني العدواني مدينته بيروت التي كان حاوي يعتبرها العاصمة الوجدانية للأمة العربية". في هذا الكلام كثير من تقزيم حقيقة الموت واختصار لحياة الشاعر، فصاحب "بيادر الجوع" حاول الانتحار ثلاث مرات قبل أن تنجح محاولته الأخيرة، وقبل أن تغزو إسرائيل بيروت، والغزو كان الذروة للدفع إلى الانتحار بطلقة بندقية صيد في الرأس...

رسائل حاوي الى حبيبته الأديبة العراقية، ديزي الأمير هي أقنعة عن مآل الطريق إلى الانتحار، فالحب العميق والمثالي لم يفض إلى الزواج، بل إلى أزمة باتت معروفة وكتب عنها في المقالات والكتب والدراسات... يقول حاوي في إحدى رسائله "إن إيمانك بي سيقوى وسيغدو أقوى من كفري بالحياة ومن لعنتي لها وعندئذ ستكون لي حياة، ولي موقد دافئ وعائلة"(كتاب “خليل حاوي.. رسائل الحب والحياة" الصادر عن دار النضال للنشر العام 1987)، يتعاطى حاوي مع الحبيبة كمنقذة، ولكن ثمة عوامل تجعل الوصول إليها مستحيلاً... يقال إن حاوي لم يُقدم على الزواج خشية أن يفشل في إسعاد من أحبّ، وهرباً مما يترتّب عن الزواج من تبعات ومسؤوليات. في كلامه على الحبّ يقول "إن الحبّ يا ديزي، كما علّمني غيابك عنّي، جوع لمن نُحبّ وشبع من الآخرين، إنه التوحيد المطلق يقوم في النفس عفواً وبداهة، لا يفتقر إلى مجاهدة النفس في سبيل العفّة، إنه ترفّع عن الإغراء وتهاون بالفتون، إشاحة عن الملذات العابرة، وأُنسٌ في الوحدة ورضى عن الجوع والظمأ". وفي رسالة أخرى إلى ديزي يندم خليل حاوي، ويعترف بحبّه لها "وأنتِ أنتِ من تكونين لي ولِمَ يعتصر قلبي الندمُ على كل كلمة عصبية وعلى كل نظرة قاسية ندّت منّي ووقعت على وجهك الطيّب الحبيب؟ لِمَ هذا الضنُّ المجنونُ بحبّكِ ورضاكِ، ولِمَ تسحقني نزوةٌ تَهمّ بفصم ما بيننا، لِمَ أنتِ أحبّ إليّ من نفسي، ومن تكونين لي؟". وفي رسالة أخرى يعترف خليل لديزي بأن “الحياة بدونك فارغة حتى ولو كانت في الجنّة".

الأرجح أن توقيت انتحار خليل حاوي جعل منه ايديولوجياً وشعاراتياً، في المقابل الربط الأول(العربي) بين الانتحار والسياسة كان مع انتحار الروائي الاردني تيسير سبول، الذي كان يربط خلاصه الفردي بتحقق الآمال القومية العروبية، لكن انتحار سبول كان اقل صخباً لأنه في زمن مختلف. كتب سبول روايته الوحيدة "أنت منذ اليوم" عام 1968، عبرت الرواية عن الحالة العربية والإحباط الذي رافق هزيمة الـ67 من حزيران عند المثقفين العرب، ومباحثات المصريين والإسرائيليين في ما يعرف بـ"خيمة الكيلو 101"، التي أعقبت حرب تشرين عام 1973، أرخى بثقله على الوضع النفسي لصاحب "أحزان صحراوية"، وفي 15 تشرين الثاني 1973، كان تيسير في سهرة مع صديقَيْه، عدي مدانات وفايز محمود، يخططون للانتحار، وبعد منتصف الليل أطلق الرصاص على رأسه بعد خروج زوجته من البيت، ليعبر مشهد انتحاره عن مأساة جيل بأكمله، تاركاً قصيدته الأخيرة كصرخة احتجاج، والتي قال فيها:
"نبياً غريب الملامح أمضي
إلى غير غاية..."
"أنا يا صديقي
أسير مع الوهم، أدري
أيمم نحو تخوم النهاية
نبياً غريب الملامح أمضي
إلى غير غاية".

أما الشاعر المصري أحمد عبيده، فقد عُرف بثوريته، وعارض السياسة الناصرية. بعد هزيمة 1967، أصابه الحزن الشديد وعلَّق آماله على حرب أكتوبر واعتبرها إعادة لكرامة المواطن المصري، ولكونه المترجم الخاص للرئيس الراحل أنور السادات، فقد صُدم بمفاوضاته مع إسرائيل وأميركا، واعتبرها بداية لهزيمة جديدة. جاهر برأي ضد السادات، فأصبح مطارداً أمنياً واعُتقل عام 1974، وتعرض للتعذيب. ودوّن عبيدة أحزانه أشعاراً على الورق والجدران، لكن السجانين نزعوا أوراقه ووعدوه بإعادتها له بعد خروجه من المعتقل، وأخلفوا وعدهم. وظل يبحث عنها شهوراً بين أقسام الشرطة دون جدوى. فقاد عدداً من المظاهرات التي تندد بالتطبيع، فأودعته السلطات مشفى الأمراض العقلية وأخضعوه لجلسات كهربائية. وانتحر كصرخة احتجاج مدوية. ولعل أشهر ما كتب الشاعر الراحل، الذي اضطر ذووه قهراً لإحراق مؤلفاته، خوفاً من بطش السلطات:
"يستطيعون أن يكمِّموا فمِي بالحَجر
وأن يرشقوا الأسياخ الحديدية في أضلاعي
وفي شباك الزنزانة
لكنهم لن يستطيعوا أن يوقفوا زقزقة العصافير على الأشجار
"يستطيعون أن يكمِّموا فمِي بالحَجر
وأن يرشقوا الأسياخ الحديدية في أضلاعي
وفي شباك الزنزانة
لكنهم لن يستطيعوا أن يوقفوا زقزقة العصافير على الأشجار"
ولا تدفق المياه في النهر
ولا صياح الدِّيكة في الفجر
حتى تبشر بميلاد صباح جديد".
 
***
  ويزعم بعض الكتّاب "أن لا شيء يقترب من حقيقة الانتحار أكثر من الرسائل التي يتركها هؤلاء الذين يقتلون أنفسهم، لكن الحقيقة غير ذلك برأي الطبيبة النفسية والكاتبة الأميركية كاي جاميسون، فتوقعاتنا لما نعتقد أنه سيدور في خلد الناس أو يشعرون به وهم يواجهون حتوفهم؛ أعظم من حقيقة ما فعلوه وأسبابه. خبير الانتحار إد شنيدمان على سبيل المثال، علق مرة على التفاهة المخيبة للآمال لرسائل الانتحار – قال: "رسائل الانتحار غالبًا ما تكون أشبه بالمحاكاة الهزلية لبطاقات بريد ترسل للبيت من غراند كانيون أو سراديب الموتى أو الأهرامات ــ لفتة لطيفة في المقام الأول، لا تعكس إطلاقًا عظم المشهد الموصوف أو عمق الانفعالات الإنسانية التي يتوقع المرء أن يبعث عليها الموقف" و"التعبير عن الأفعال الباطنة المظلمة القصية صعب بما يكفي لهذه الأذهان الحاسمة المتهيئة، لهؤلاء المحبطين، المشوشين، فاقدي الأمل، منحسري التفكير، فنصوصهم تفتقر إلى البيان على الأغلب. حين يجد البيان أو التبصر البليغ طريقهما إلى رسائل الانتحار، فإنه يعاد اقتباسهما بشكل متكرر، بالتحديد لكونهما يقدمان نظرة منفردة للذهن الانتحاري".

معظم الرسائل ليست مكتوبة بشكل درامي، فبعض كاتبي الرسائل، وبغض النظر عن كونهم شعراء، يقتبسون من كلام الآخرين. باول تسيلان على سبيل المثال، رسم خطًا تحت جملة من السيرة الذاتية لهولدرلين "أحيانًا تظلم هذه العبقرية وتغوص في مرارة رغبة القلب"، ثمّ أغرق نفسه في نهر السين الفرنسي. البعض يترك توثيقًا أوسع لأفكاره، ففي مذكرات سيزار بافيزي في آخر سنة من حياته الغارقة في ألم لا محدود، ورد: "ها هو إيقاع المعاناة قد بدأ، في كل غسق ينقبض قلبي حتى يحل الليل"، ثم لاحقًا، وليس قبل وقت طويل من قتل نفسه، كتب: "والآن، حتى الصباحات صارت ملأى بالألم".

 الأسباب المقدمة للانتحار غالبًا ما تكون غامضة وتعزى للإنهاك أو الألم المتراكم، ربما تكون وليدة اللحظة، وما بعدها تكثر التخمينات الأسطرة حول دوافع الموت الإرادي... الروائي الياباني رايوانوزوك أكوتاغاوا حين كان في الخامسة والثلاثين، كتب "العالم الذي أعيش فيه الآن، هو الكون الجليدي الشفاف للأعصاب المريضة… بالطبع، لا أريد أن أموت، لكن البقاء على قيد الحياة موجع". وتحدّث جيمس ويل، مخرج فيلم "الرجل الخفي"، أيضًا عن الأعصاب والمعاناة في رسالة انتحاره: "لا تحزنوا عليّ. أعصابي جميعها تلفت"، ورغم خوفه الشديد من الماء، أغرق نفسه بعدها في حوض السباحة خاصته، وتماشيًا مع كوميديته السوداء طيلة حياته، ترك في مكان غير بعيد نسخة من كتاب: لا تقترب من الماء.
قبل ساعات من انتحاره بإطلاقه الرصاص على نفسه كتب الرسام فان غوخ: "إن الحزن يدوم إلى الأبد". وكتبت الفنانة داليدا قبل انتحارها "الحياة لا تحتمل، سامحوني". وقال المغني وعازف الغيتار كيرت كوبين "من الأفضل أن تحترق بسرعة بدلاً من أن تتلاشى". ورغم أن سرطان الثدي سيتمكّن تدريجيا من التهام جسد الشاعرة الأرجنتينية ألفونسينا ستورني ستختار، في نهاية الأمر، أن تهبه للبحر بدل أن ينهشه المرض. ولتكون آخر كلمات ألفونسينا ستورني في قصيدتها: سأنام: "إذا اتّصل مجدّدا عبر الهاتف، قولي له أن لا يلحّ، فلقد خرجتْ". وقال الشاعر كوستاس كاريوتاكيس "لطالما كنت مصابا بدوار الخطر، وها أنا أدفع الثمن عن جميع الذين على غراري، آمنوا بأن الحياة لعبة بلا جوهر". الشاعر المصري منير رمزي، انتحر بإطلاق رصاصة على نفسه وكتب على قصاصة ورق رسالة الأخيرة "أنا هارب". واشترى الشاعر العراقي قاسم جبارة مسدسًا من أحد مخازن الخردوات، عاد إلى منزله وكتب "كل أعضائي هادئة باستثناء العراق"، وأطلق النار على نفسه، لكن الطلقة غافلته وأردته مشلولًا في أحد مشافي العراق، ليموت بعدها بفترة متأثرًا بطلقة انتحاره. وانتحر الشاعر الأميركي، لو ولش، بإطلاق النار على رأسه في نيفادا تاركا وراءه رسالة وداع يقول فيها "لا أدين بشيء لآلن غينسبرغ ولا لأمي". وابتلعت أليخادرا بيثارنيك، الحبوب المنوّمة وكانت رسالتها الأخيرة مكتوبة على قصاصة ورق تقول فيها "لا أريد أن أذهب سوى إلى القعر". وربط الشاعر الكوبي رينالدو أريناس بين انتحاره والحرية، قائلاً "كوبا ستصير حرة، أما أنا فقط أصبحت كذلك منذ هذه اللحظة". بينما انتحر الشاعر المغربي كريم حوماري، لأن "عين الأشباح تطارده صباح مساء"، وأسر لأصدقائه بأنه "إما أن يكون شاعراً كبيراً، أو يغادر الوجود". وقال الشاعر العراقي إبراهيم زاير "لقد قررت الانتحار... آسف لإزعاجكم". وكتب الروائي المصري الانغلوفوني، وجيه غالي "انتحاري هو الشيء الحقيقي الوحيد في حياتي". الباحث المصري إسماعيل أدهم وُجِدَتْ جثته طافية على مياه البحر المتوسط، وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها، أما أشهر الكتاب الذين انتحروا كمداً بسبب القهر المجتمعي، فهو المصري رجاء عليش، ضحية النبذ والتنمّر لقبحه وقصر قامته، فكتب قبل لحظات من انتحاره، رسالة للنائب العام المصري، قال فيها: "عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء".

فى آب 1962 انتحرت الشقراء الأميركية، مارلين مونرو ووجدوا بجانبها رسالة مكتوب فيها: "لدى إحساس عميق بأنني لست حقيقة تماماً، بل إنني زيف مفتعل ومصنوع بمهارة وكل إنسان يحس في هذا العالم بهذا الإحساس بين وقت وآخر، ولكني أعيش هذا الاحساس طيلة الوقت، بل أظنّ أحيانا أنني لست إلا إنتاجاً سينمائيًا فنيًا أتقنوا صُنعه".

(*) جزء من نص أطول
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها