الخميس 2022/06/30

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

"كباتن الزعتري".. اللاجئون يحتاجون فرصاً لا شفقة

الخميس 2022/06/30
increase حجم الخط decrease
ما زال المبدأ القائل بأنه لا ينبغي الجمع بين الرياضة والسياسة، يجد بعض المدافعين عنه، بما في ذلك رياضيون محترفون، لكن هناك، في المقابل، جهوداً يبذلها رياضيون ووسائل إعلام وإنتاجات سينمائية وتلفزيونية لإثبات استحالة فصل أحدهما عن الآخر. فيلم "كباتن الزعتري"(*) للمخرج علي العربي، يأتي ضمن محاولات السينما الوثائقية لشرح كيف يمكن للرياضة أن تكون انعكاسًا للجغرافيا السياسية العالمية وأداة من أدواتها كذلك.

يتابع الفيلم، على مدار 8 سنوات، مسيرة وحلم شابين سوريين لاجئين من مخيم الزعتري بالأردن، بغية إيجاد مخرج لهما في كرة القدم، من خلال احتراف اللعبة ومن ثمّ تغيير حياتهما وحياة عائلتيهما. وصف "المخيم" لا ينقل بشكل كاف حجم وتعقيد هذا المجتمع الراسخ، حيث يقضى العديد من الأطفال حياتهم كلها. في إنشاء الصداقات، وتعلُّم اللغة الإنكليزية، والشكوى من المدرسة، والأهم من ذلك كله، ممارسة كرة القدم.

افتتاحية الفيلم لا تنصفه كثيراً، رغم جماليتها، بسبب نبرتها الشبيهة بأجواء الفيديوهات الدعائية/الرسمية للفيفا، حول حضور كرة القدم وأهميتها في أماكن مختلفة من العالم، والتي تبرزها الموسيقى التصويرية بشكل يطرح تساؤلاً مبكراً حول ما إذا كان الفيلم سيتخذ هذا النهج العاطفي التأثيري طوال دقائقه الـ93. لكن الفيلم يزيح تلك الشكوك جانباً في طريقة للوصول إلى قلب الجمهور، من خلال العلاقة الحميمة التي يكتسبها من/ومع شخصياته، عبر تظهير صداقة وتكاتف أخويين في أوضاع إنسانية صعبة، ومتابعة رحلة إثمار حلم الصديقين ببناء مستقبل يختلف عن واقعهما الذي عاشاه منذ اضطرارهما إلى مغادرة سوريا المنكوبة بحربٍ لا تنتهي.


يأخذنا المخرج إلى المخيم الأردني، مقدّماً بطلَيه الصديقين المراهقين محمود وفوزي، في لقطات تظهرهما أثناء لعبهما كرة القدم أو في محادثاتهما مع عائلتيهما حيث يضعان كل الآمال فيها. الأول، بالمناسبة، يوبّخه والده لعدم ارتياده المدرسة بانتظام، بينما يتعيّن على الأخير التعامل مع غياب هذا الحضور الأبوي، لأن والده مسجون في مخيّم آخر بسبب عمله بشكل غير قانوني. يتساءل محمود: "لماذا يجب عليّ مواصلة التعلُّم؟ أنا لاجئ. حتى عندما سأحصل على شهادة، سأبقى لاجئاً بشهادة". في نظرهما لا سبيل للخروج وتغيير الأوضاع إلا في احتراف كرة القدم. تقترب أحلامهما من التحقق حينما تزور "أكاديمية أسباير" القطرية للتدريب الرياضي ورعاية المواهب، المخيم بحثاً عن مواهب رياضية، ومن ثمّ إخضاع المتأهلين لتدريب مكثف في الدوحة، والمشاركة في بطولة دولية.

غير أن نتائج الاختبارات تختلف لكل منهما. ففي حين اختير محمود، كابتن "فريق الحلم السوري"، ليشارك بفريقه كضيف شرف في بطولة الكأس الدولية لدون سنّ السابعة عشرة في قطر؛ رُفض صديقه فوزي، الموهوب جداً، بسبب عمره. لاحقاً، وفي تغيُّر يليق بحكاية الفيلم، يُسمح له بالمشاركة والسفر إلى قطر، حيث تبدو الملاعب المعتنى بها بخضرتها الوفيرة وكأنها عالم من الأحلام، مقارنةً بالساحات المتربة والمغبرة في المخيم. في قطر يختبران مكانًا وحياة تشبه أحلامهما الجامحة التي أصبحت راسخة. الارتفاعات والانخفاضات في أدائهما خلال المباريات، التي يعتقدون أن مصيرهما بأكمله متوقف عليها، تضيف لمسة جديدة تماماً على تجربة مشاهدة كرة القدم، خاصةً إذا لم تكن شيئاً يثير انفعالك عادةً. في إحدى المباريات المحورية، يتطرّق الفيلم إلى ردود أفعال أسرهما وأصدقائهما في المخيم، الملتفّين حول تلفزيون صغير لمشاهدة المباراة، يملأهم مزيج من الترقب والإثارة والعاطفة.

تعايش الطموح والإحباط يوجّه رحلة الشابّين. تمنحهما تجربتهما في أكاديمية "أسباير" الفرصة للقاء عظماء كرة القدم، سواء كان ذلك بحضور الحصص التدريبية لفريق بايرن ميونيخ أو تلقّي النصائح من الدولي الفرنسي السابق ديفيد تريزيجيه والإسباني تشافي، لكن في الوقت ذاته، يبدو التدريب اليومي وخوض المباريات التنافسية بمثابة تذكير بصعوبات التحقق في رياضة محبوبة مثل كرة القدم، فهي من ناحية تغذّي رغبة الآلاف في أن يصبحوا نجوماً، لكنها في المقابل لا تقدّم سوى القليل من الفرص للتحوّل إلى الاحتراف.


فنياً، فأكثر ما يلفت الانتباه في الوثائقي أن أبرز أجزائه هي نفسها التي ربما تكون موضع شك المُشاهد، بمجرد أن يبدأ التفكير فيها، بعد الانتهاء من مشاهدتها. المحادثات التي يجريها فوزي ومحمود في وقت متأخر من الليل في المخيم، حيث يناقشان آمالهما وتطلعاتهما، تشبه إلى حد كبير مشاهدة ممثلين جيدين في فيلم درامي. هذا يقود المرء إلى البدء في التفكير في الأمر على أنه "واقع مكتوب" أكثر من كونه فيلماً وثائقياً/تسجيلياً مباشراً. حقل الدراما الوثائقية حافل بتعقيد مركّب ومميّز (كما في "فرار"، 2021، يوناس بوهر راسموسن) أو "أنف دامية، جيوب فارغة" (2020، بيل وترنر روس). وهو قادر على بلوغ مستويات مذهلة في بناء القصص وطبقات الحكي، لكن عندما يبدأ الجمهور في الشعور بالخداع، يمكن أن تظهر المشاكل. كما أنه يقود إلى تساؤلات حول مدى تواطؤ الأبطال/الشخصيات وإدراكهم لـ"هندسة" الفيلم، لأن هناك مواضع ومحادثات في "كباتن الزعتري" لا يشعر المُشاهد أن المخرج تعثّر بها صدفة أو صاحب تكشُّفها على هذا النحو المُهندَس. بعبارة أخرى، يبدو أن المخرج لديه قصة قام ببنائها حول هؤلاء الأولاد وخلقَ "شخصيات" من شخصياتهم الحقيقية، وهذا بالضرورة يدعو للبدء في التساؤل عن الحقيقة في صميم ذلك كله.

رغم ذلك، من الصعب عدم التورّط في حكاية محمود وفوزي أثناء متابعتهما خوض محن وصعاب وفرص وأحلام. بالطبع، تشجّعهما وترغب في مواصلتهما المشوار، ولحسن الحظّ لا يذهب صانع الفيلم إلى حدّ منحهما نهاية هوليوودية نموذجية. واقعهما، الذي نراه على مدار سنوات، لن يكون ملهماً مثلما في حلقة من المسلسل الرياضي الكوميدي "تيد لاسو"، الذي يعتنق التفاؤل كثقافة مضادة. هذا فيلم تسجيلي/وثائقي جميل وجيّد، قد يشعرك ببعض التشكّك بشأن تقنيات وأسلوب إنجازه، بمجرد أن تبدأ التفكير في الأمر؛ لكن قيمته المضافة تتعزّز أكثر فأكثر عبر الصداقة الأصيلة والصميمة بين فوزي ومحمود، وفي المحادثات التي تعكس تجارب المراهقة وشكوك مرحلة النضوج، ورسالته البليغة التي جاءت على لسان أحد أبطاله في نهايته: "اللاجئون يحتاجون إلى الفرص، لا الشفقة".

(*) عُرض مؤخراً في بيروت ضمن فعاليات النسخة العاشرة لمهرجان "أيام بيروت السينمائية".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها