يصف برينان الأجزاء التي اطلع عليها من مخطوط الرواية، فيقول إن نثر سعيد كان يتوافق تماماً مع متطلبات المشهد، وأنه لو توافر الوقت ولم يكن لديه شيء آخر يفعله لأكمل المشروع وأوصله إلى مرحلة النشر، فالكتابة لديه "سيالة، واثقة، مكتملة. والشخصيات التي يوجد بعضها في القاهرة وبعضها الآخر في هليوبولس تمضي قدماً بترتيب يثير الإعجاب". شخصيات من أيام مدرسة القديس جورج في القدس، وأخرى تقترب في تفاصيلها من معلمه الموسيقي تيغرمان صاحب التأثير الأكبر في تذوقه للموسيقى، إضافة إلى صور معدلة من سيرته نفسها.. "أما مفيد فهو شخصية يسخر سعيد بواسطتها من نفسه فتستمد مادتها من السنة التي قضاها في شركة القرطاسية".
يعلق المؤلف أخيراً بأنه سعيد، وهو على أعتاب أن يصبح أستاذاً جامعياً، كان يفكر في أن القصص قد تكون منصّة يعبّر بواسطتها عن كل تلك الصراعات الداخلية التي كان عمله البحثي يمر عليها مرور الكرام.
لن يكمل سعيد روايته لتظل "مرثاة" غير مكتملة إلى الأبد، وإن كتب بعدها قصة قصيرة بعنوان "سفينة لمن يصغي"، أرسلها إلى "النيويوركر" في 26 فبراير 1965، واستقى مادتها من ذكرياته في ليالي الصيف في ضهور الشوير، وفيها يروي قصة آل أندراوس الذين لجأوا إلى البيت الصيفي لصديق لبناني بعدما أُجبروا على الخروج من فلسطين. ويصفها برينان بأنها أفضل ما أنتجه سعيد من نثر إبداعي. وربما كان رفضها من قبل المجلة سبباً في توقفه عن كتابة القصص لمدة تجاوزت الـ20 عاما!
عودة لأرض الرواية
وما بين العامين 1987 و1992 عاد سعيد إلى أرض الرواية مجدداً، وعمل على نحو متقطع على رواية حول الخيانة، تداخل بعدها مع موضوع آخر عن عجز الرجال من العرب قبل أن يتخلى عن المشروع تماماً. كانت الخلفية المختارة للرواية، وفق الكتاب، هي بيروت أيضاً، لكن عشية الأزمة السياسية التي نشبت في العام 1958: "كانت الحبكة ستتناول التجسس، وظلم الشرطة، والإذلال الذي تسببه السياسة بصفتها عناصر الحبكة الكبرى". لكنه في النهاية لم يكمل منها إلا 45 صفحة، ومن بينها ملاحظات تفصيلية وملخصات لصفحات لم يكتبها. تدور الرواية حول اختطاف طالب طب شارك في الاحتجاجات الطلابية ضد آيزنهاور، ويخونه مخبر، ويؤخذ إلى سجن سري. وتظهر فيها أيضاً شخصيات عرفها سعيد في حياته "أما سعيد نفسه فهو مزيج غامض مشوَّه من شخصيتين مختلفتين، أسعد فرانكوب وهو شخصية حرباوية يثرثر كثيراً، ويقيم علاقة غرام مع صحافية مرتبطة بجاسوس أميركي سري، وصدقي، وهو رجل في الخمسين يحمل شهادة دكتوراه متميزة في الفلسفة، وتثير كتبه المنشورة الكثيرة وسمعته الدولية زملاءه في بيروت لأن يذلوه بأن يطلبوا منه الحصول على شهادة الثانوية العامة المحلية قبل السماح له بالتدريس في الجامعة". على نحو ما واجهه هو نفسه من تجاهل عندما عرض تدريس إحدى المواد من دون أجر في الجامعة الأميركية ببيروت، ووصل الأمر إلى حد وضع عراقيل أمام حصوله على شيء من البساطة، ما يبلغه الحصول على بطاقة تخوله استعارة الكتب من المكتبة! على حد وصف المؤلف.
لكن الأهم هو التحليل الذي يقدمه برينان لهذه الصفحات المتناثرة، التي اعتبرها فرصة لا تقدر بثمن للاطلاع على مقاصد سعيد الجمالية، فضلاً عن لمحة السخرية من الذات التي تظهر هنا وهناك. ووفقاً لتحليله، فإن بيروت مثلاً لا يمكن أن تمثل إلا نفسها في الرواية، "المكان الحرفي الذي يجمع المتعة ذات الصبغة العالمية والكفاح والمهانة اليومية"، لكنها تمثل أيضاً "مسرحاً عربياً في طور الظهور". أما فرانكوب فليس شخصاً بقدر ما هو نمط إشكالي، "الرجل المتحرر تماماً" الذي "يمكنه التخلص من أي شيء من دون أن يراكم تاريخاً". أما صدقي، وهو أكثر الشخصيات رمزية، فيمثل المثقف الغربي الذي "انقطع عن العرب والغرب، وهو على وعي باليهود... عاجز عن التغير، وأصدق من أن ينتمي".
ترك سعيد الشكل النهائي للرواية غير واضح، لكن برينان استمر في تحليل التعليمات التي وضعها لنفسه، منها مثلاً تأكيده على فكرة تحطيم "المسار السردي الطويل" المرتبط بالرواية الواقعية التي كان من رأيه أنها مسؤولة عن خلق أوهام الاستمرار: "فقد شعر أن ذلك لا ينطبق على التجربة الفلسطينية". ومن نصائحه أيضاً: "التزم بما هو غير كامل"، "أنا أثق بقصرها المشتت، بأنها تسعى دائماً إلى البدء من جديد"، معتبرا أنها الطريقة الوحيدة التي تمكنه من تجاوز "الانضباط المؤذي... وتسمح لذاتيتي بالتدفق". ويعلق برينان: "أراد أن يتحاشى، مهما كان الثمن، الشكل الاعترافي الذي يطبع كثيراً من ذلك الشعر الغنائي وذلك الفن الروائي التسجيلي السيء الذي ينتجه العالم الثالث". كان سعيد في هذا التوقيت يراجع قناعاته بالنسبة للفن الروائي العربي بالتحديد، أو ربما شعر بالفزع من شخصية المؤلف كما يقول برينان، وكان لهذا الفزع دور كبير في تخليه عن الرواية، مشيراً إلى تأكيد سعيد لهذه الفكرة في مقالة ألهمته كتابتها صديقتُه، نادين غورديمر، الروائية الفائزة بنوبل، وفيها تحدث عن المؤلفين بوصفهم "كوميديين اجتماعيين تنتهى وظيفتهم عندما يمسكون بالوجود بالكلمات من دون رهبة أو على نحو جميل". وهي الرؤية التي يعلق عليها برينان بقوله "إن الروائي لا يكتمل إلا بالنقد، وهذا يعني قول لا لما هو موجود، وليس إعادة إنتاجه". وهو ما يتطابق مع قاله أستاذه سعيد نفسه، سابقاً، بلهجة تأكيدية "أنا لست فناناً"، معتبراً أن قصارى ما يطمح إليه الناقد هو أن يكتب ليُفهم "وهذا فيه من الفن ما يكفي".
لذلك يقول برينان أنه عندما بدأ سعيد في العام 1992 بكتابة مذكراته "خارج المكان"، فإنه فعل ذلك ليس لأنه فشل في إتمام الرواية، بل لأنه رفض إتمامها "ففي انقلاب على النفس في الجزء الأخير من حياته في ضوء حياة قضاها في التعليم، رفض الرواية بوصفها شكلاً من أشكال الأدب، وقال إنها لم تعد تعني شيئاً".
خارج المكان
لكن ذلك لم يكن العامل الوحيد، ففي سبتمبر 1991 وقبل أن يزيح الرواية جانباً، أظهرت الفحوص الطبية التي أجراها أنه يعاني من لوكيميا تضخم الأنسجة اللمفاوية المزمن، وبعد سنوات من المعاناة ومع نهاية عقد التسعينيات كان العلاج الكيميائي قد دمر حيويته "شحب وجهه الجميل وغارت وجنتاه. وجعله ورم في البطن يبدو كأنه يضعف ويزداد وزنه في الوقت نفسه"، لذا فإنه يقول إن سعيد بدأ كتابة "خارج المكان" في مايو 1992 كـ"رد مباشر على التشخيص الذي يهدد بالنهاية".
لكن الواضح أنه لم يتخل عن حلمه بالكامل، بل أراد إقناع نفسه بأنه حققه بشكل ما، فبعد النجاح الكبير الذي ناله "خارج المكان" أخذ يصفه باستمرار بأنه "رواية توثيقية". وفي مقابلة مع مجلة "تايم" أجراها أثناء كتابته، قال إنه يكتب "شيئاً أشبه بالرواية"، وإن لم يعن هذا التوصيف برينان كثيراً. إذ اعتبر أن الكتاب في المجمل، بغض النظر عن التوصيف، يعد تتويجاً لمسيرة سعيد، وأنه صار أكثر من غيره "الكتاب الذي جمع مواهبه كلها في مكان واحد"، حيث رأى أن كل كتاب من كتبه ترك أثراً، وعُدّت ثلاثة منها على الأقل أحداثاً مهمة. لكن المديح الذي ناله "خارج المكان" كان شاملاً، فإلى جانب المراجعات الحماسية والجائزة التي منحتها إياه مجلة "النيويوركر"، فقد انهالت عليه رسائل الإعجاب من كل مكان، وبعضها كان من كتاب حائزين جائزة نوبل وحتى بعض نجوم السينما.
بحسب برينان، فإن سعيد كان ينوي أن يسمي كتابه "ليس صحيحاً تماماً"، وتمسك بهذا العنوان حتى قبل الدفع به للمطبعة بوقت قصير، لكنه فكر في النهاية أن موضوع المنفى الملتصق بكلمة "المكان" سيكون أوضح وأقل غموضاً من العنوان المتروك، وهو أيضاً العنوان الذى أوحى بالروح الداخلية للكتاب، وهى كما يقول ليست عن المنفى بل عن عدم العيش في المكان الصحيح، عن عدم الشعور بأنه "في بيته" في أي مكان. وهو ما تحقق فعلاً على نحو ما خلال حياته، وحتى قبل رحيله بوقت قصير، فقبل رحيله بشهر تقريباً، بالتحديد في أغسطس 2003، رفض المسؤولون في شركة طيران البرتغال أن يسمحوا له بالصعود للطائرة في رحلة العودة لأن اسمه تسبب في استثارة تحذير في جهاز ما. فتح رجال الأمن حقائبه فتناثرت كتبه وأدويته حوله، وشعر بأنه أُهين على نحو بالغ، وقال بصوت غاضب وضعيف: "أنا ولدت مواطناً أميركياً، وعشت في الولايات المتحدة من خمسة وأربعين سنة إلى خمسين". ويعلق برينان تعليقاً لافتاً على الموقف كله فيقول: "سواء أخرته شركة الطيران على باب الطائرة بسبب إجراء عادي نتيجة للتصنيفات الإثنية المعتادة، أو استهدفته بسبب أنشطته السياسية بناء على أوامر من دائرة الهجرة في الولايات المتحدة، فإن النتيجة تبقى كما هي. كان يعد غريباً في صباه في القاهرة لأنه أميركي، أما بلده الأميركي فلم يعدّه أصيلاً فيه". نتيجة كان قد توصل إليها سعيد بالفعل في شبابه، حيث يكشف كتاب برينان عن قصاصة تنتمي إلى المرحلة الجامعية، تسجل أولى محاولات سعيد لتعريف الذات يقول فيها: "أن يكون المرء مشرقياً معناه أن يعيش في عالمين أو أكثر من دون الانتماء إلى أي منهما".
(*) صدرت النسخة العربية من كتاب "إدوارد سعيد أماكن الفكر" لتيموثي برينان، مدرس العلوم الإنسانية بجامعة منيسوتا في الولايات المتحدة، ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، بترجمة محمد عصفور.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها