الأربعاء 2022/06/29

آخر تحديث: 12:13 (بيروت)

قطط شارع الحمرا

الأربعاء 2022/06/29
increase حجم الخط decrease
لا تستجيب القطط إلا لمآربها الخاصة، وهي تملك من الكِبر ما يجعلها تحدّق بعين الغضب في كل من يتطاول عليها، وليس من باب العبث أن الرومان كانوا يلقون بِوَبر القطط أسفل تماثيل ليبرتاس – آلهة الحرية والإستقلال – كي تصون استقلالهم لعلاقة القطط الوطيدة مع هذه الآلهة.

كثيراً ما ينتابني الحزن لدى إمعان النظر في عيون قطط شارع الحمرا، فالحزن يلف محيا هذه القطط ويهندس بلادة حركاتها. في سلوك قطط الحمرا ما يشي بالكثير الكثير من القهر والمضاضة وصولاً إلى الإكتئاب، بيد أن اكتئابها العميق لا يلبث أن يتلاشى تحت وقع التمسيد فوق أجسادها بحنو.

أراني أحادث قطط الحمرا بصوت رخيم لتبادلني مواءً هو أقرب إلى تجلّي الأرواح المقدسة عبر الأوتار الصوتية.

يحفل العالم بالكثير من القطط ذات الشأن والشهرة: "بلوتو"، وهو قط إدغار آلان بو الأسود، قطط بوكوفسكي الخمسة، قط ميخائيل بولغاكوف في رائعته "المعلم ومرغريتا" فضلاً عن قط دريدا وصولاً إلى "بلبل" قطّي الأسود الجليل.

لا تخرج قطط شارع الحمرا عن خريطة الغرابة لتلك القطط المذكورة آنفاً، فكل القطط بنهاية الأمر هي تكرار لقطّة واحدة، "سيخمت" ربة القطط الفرعونية. في كتابه "ثلاث عشرة قطة سوداء"، يقول عالم الأساطير المتخصص في الرموز الحيوانية، يوري دميترييف، أن القطط تملك القدرة على تقديم المشورة بسبب ما تحفل به من قدرات تنبؤية، إنما ثمة نخبة من البشر تملك القدرة على فك طلاسم هذه المشورة... لم تجتز القطط جميع مراحل التحوّل إلى الألوهية، يقول أهل الاختصاص، بل فوراً صارت آلهة.

لا يبدو أن ثمة في الحمرا من يملك تلك النخبوية التي تسمح بالإنصات إلى ما تقول القطط، حيال هذا الشارع الذي قد لفّه البؤس والشرود والعطالة.

أحاول كثيراً أن أتقرّى عيون القطط لدى مروري بالحمرا، أو احتسائي القهوة في هذه الكافيه أو تلك. ثمة في "دانكن دوناتس" قط أصفر لا يني يشاركني القعدة، أحبّ هذا القط كثيراً، فهو عبر مطّ موائه، يحيلني بلمح الخاطر إلى الشيخ أحمد التوني، عندما يكون في لحظات انتشائه التي لا تعرف المستحيل.

نعم، لقطط الحمرا هذه القدرة على البوح عبر حركات الأجساد، نظرات العيون، تمايل الأذناب وذلك المواء المتقطّع الخفيض الذي سرعان ما يبث السكينة. قطط كثيرة تستدعي أناساً أعرفهم، عناوين كتب قرأتها، وأشخاصاً يجوبون المدينة. فتلك القطة السوداء والموشحة بأبيض خجول، والتي قد ترونها بين "روسّا كافيه" و"فيرو مودا"، توقظ في رأسي، عبر ارتيابها المدروس ولامبالاتها المتيقظة، فتاة أعرفها تدعى نور وتقيم في تركيا... ثمة قطط من الذكور، لا تشي ملاحقة عيونهم للمارة، ثمّ صمتهم المتردد، إلا بكونهم شعراء لا ينظمون القصائد بالمرّة، وذلك لِمَا يداخلهم من وعي أنهم هم في شارع الحمرا القصيدة.. فضلاً عن ذلك القط العجوز المترهل لكن بهيّ الطلة والتاريخ والذي ترونه بجوار ساحة "الإيتوال"... فهو يبدو على الدوم مثل جنرال في متاهته.

تجذبني كثيراً تلك القطة شبه العرجاء أمام مقهى "ستاربكس"، تتحايل على المارة بوفرة كي يقوموا بتغنيجها لتغفو بعدها وتركن إلى عالم من النوم، لا علاقة نحن البشر بانسيابه الرقراق وعمقه.

كثيراً ما تخالجني الفكرة التالية: ماذا لو تبادلنا الأدوار، نحن ناس الحمرا، مع قطط هذا الشارع المسكين؟!! لكني أعمد وبسرعة فائقة إلى نزع هذه الفكرة من رأسي، رأفة بالقطط من جهة، ولحاجة الغالبية منا إلى دوام الـrecognition من جهة ثانية، وهو ما ليس من شيم القطط ولا من أخلاقها.

لا غرو أن قطط شارع الحمرا، محل بهدلة وسوء تغذية وإهمال، ولا مفر من القول في هذا السياق إن في الأمر إهانة، ليس للقطط، إنما لشارع الحمرا.

في القرن الثالث عشر الميلادي، عمد الظاهر بيبرس إلى تخصيص حديقة كبرى في القاهرة من أجل القطط، وجعل مهمة عمّاله أن تقوم فقط على رعاية شؤونها... حبذا لو كانت ثمة بيبرس في حاضر بيروت اليوم، بدلاً من  هذا الوباء المستشري فوق عالم القطط في شارع الحمرا.

بعيداً من القرون الخوالي، تسرح بي الذاكرة في مدن زرتها، حيث القطط أسياد المشهد وتزويقة المدينة: برشلونة، شيراز، أصفهان، القيروان... وعلى رأس الكل، اسطنبول الحبيبة. قد يرى بعض الأوباش أن في الأمر تبجحاً، أن أطلب الإرتقاء بقطط الحمرا إلى تلك المنزلة التي تحتلها قطط المدن المذكورة. لماذا على قطط مدينتنا أن لا تشارك تلك التي في شارع الإستقلال باسطنبول، أو تلك التي في جزيرة بيوك أضه، رخاء عيشها؟!

إن استهجان هذا القول يقع في باب الكفر والحماقة والزندقة... تحدثنا السيرة أن الرسول قصّ طرف ثوبه عندما همّ بالقيام كي لا يزعج قطة نامت على هذا الطرف.
حسب بودلير، كان الصينيون يترصدون الوقت عبر عيون القطط.

إن قطط شارع الحمرا تفي هذا القول حقّه، إذ من يغوص في عمق عيون قطط هذا الشارع اليوم، يرصد الوقت التعيس البائس المقفر لهذا الشارع. الكثير من الملل تحفره نظرات عيون قطط الحمرا، الكثير من الوعود بالذل تمشهدها هذه النظرات المتراخية والكثير من الوجوه القميئة يمكن رصدها... وجوه أودتْ بالحمرا لأن تكون حيّزاً محض جغرافي، ولا شيء غير ذلك، والأنكى، إنه حيز لا يتورع عن إهانة أصحاب الفخامات من القطط المترفعة المتشامخة المتسامية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها