الأحد 2022/06/26

آخر تحديث: 06:25 (بيروت)

روسيا والقسطنطينيّة والغرب: ملاحظات لا بدّ منها

الأحد 2022/06/26
increase حجم الخط decrease
منذ سقوط القسطنطينيّة، العام 1453، في قبضة العثمانيّين، بدا «العقل» الروسيّ بوصفه أكبر العقول الأرثوذكسيّة وأكثرها تأثيراً في صنع الحضارة. هذا الواقع لا يستند فقط إلى الدور الذي اضطلعت به روسيا القيصريّة في السياسة والثقافة طوال قرون، بل يحيلنا أيضاً إلى التعاطي الكثيف والخلّاق مع الغرب الأوروبيّ الذي انخرطت فيه النخب الثقافيّة الروسيّة منذ القرن السابع عشر على الأقلّ. فروسيا، على الرغم من امتداداتها الآسيويّة، كانت عيناها شاخصتين إلى الغرب على الدوام. لعلّ أحد أبرز الأمثلة على هذه الديناميّة هي اختيار القيصر بطرس الأكبر أكثر بقع إمبراطوريّته قرباً من الغرب، أي مدينة سانت بطرسبرغ، كي يجعل منها عاصمةً لمملكته. واستقدم مهندسين وفنّانين من إيطاليا وفرنسا وألمانيا ليقيموا له إحدى أجمل المدن في العالم.

روسيا هذه صنعت حضارتها العبقريّة بفضل رافدين: الرافد الأوّل هو الإرث الثقافيّ والروحيّ البيزنطيّ، والرافد الثاني هو الحداثة الأوروبيّة. لا يمكن الإحاطة بالثقافة الروسيّة من دون الرافد الأوّل. ما زالت بيزنطية تسكن في ثنيّات الحضارة الروسيّة حتّى اليوم: في غنج العمارة، في نورانيّة الأيقونات، في أدب دستويفسكي، الذي يغوص على أعماق النفس وصولاً إلى قعر القعر مستلهماً نسّاك بيزنطية وإلمامهم بطبقات الذات الإنسانيّة، في فلسفة فلاديمير سولوفييف، وفي مقترب للكون يأبى أن يقوم بفصل مطلق بين الخالق والمخلوق، بل يرصد في المخلوق تجليّات الخالق وبذور حضوره في الطبيعة والإنسان، وفي كلّ جمال وفكر خلّاق. 


لكنّ هذا الرافد الأوّل البيزنطيّ المنشأ لا يمكن عزله، في الوعي الروسيّ، عن الرافد الغربيّ، أي عن الحداثة الأوروبيّة التي تأثّرت بها روسيا وتفاعلت معها منذ مطلع القرن السابع عشر وحتّى قيام الثورة البلشفيّة العام 1917. تكثّفت حركيّة هذا التفاعل في القرن التاسع عشر. إذّاك صنعت روسيا حداثتها هي، في الفلسفة، في الفنّ التشكيليّ، في الموسيقى، وفي فنون الأدب كافّةً، ولا سيّما الشعر والرواية. ولكن لا يمكن فهم التشكيل الروسيّ من دون النفحات الآتية من إيطاليا وفرنسا. ولا يمكن التقاط عبقريّة موسيقى تشايكوفسكي من دون الإلمام بالموسيقى الجرمانيّة، ولا سيّما في شكليها الألمانيّ والنمساويّ، التي كان تشايكوفسكي يقارعها وينخرط في حوار خلاّق معها. ولا يمكن، في أيّ حال، النفاذ إلى ما كان يحرّك الفلسفة الروسيّة من سعي إلى المؤالفة بين العلم والتاريخ والفنّ واللاهوت من دون استرجاع قرينتها الألمانيّة، التي وصلت بالعقل الإنسانيّ، مع كانط وفيشته وهيغل وآخرين، إلى واحدة من أرفع ذرى العقل. وحين دقّت ساعة ثورة البلاشفة، لم يستطع هؤلاء، على الرغم من مشروعيّة قضيّتهم، تحمّل كثافة الفكر المغاير في الروسيا. فأرسلوا عشرات المفكّرين إلى الغولاغ السيبيريّ، وطردوا من تبقّى منهم إلى «الغرب». هكذا مخرت «سفينة الفلاسفة» المنفيّين، العام 1922، عباب البحر نحو براغ وصوفيا وبلغراد، ومن ثمّ نحو باريس وبرلين. وفي حمى الجغرافيا الجديدة، تابع نيقولا بردياييف وأقرانه المغامرة الفلسفيّة الروسيّة، وأسّس سرغي بولغاكوف وصحبه معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس. ضرب الفكر الروسيّ اللاحق للثورة جذوره في الغرب الأوروبيّ. وبيّن بما لا يقبل الجدل سقوط المشروع البلشفيّ قبل سقوطه بعقود، لا لأسباب اقتصاديّة، بل لأنّه بالدرجة الأولى مشروع يقمع الحرّيّة الإنسانيّة ويدوسها. وكلّ ما يسقط الحرّيّة من حسابه، مآله السقوط لا محالة.


بكلّ بساطة، روسيا ما كانت لتكون ما هي عليه من دون القسطنطينيّة وفلورنسا وباريس وبرلين. وعبقريّة ثقافتها تقوم في أنّها كانت أشبه بالنسر البيزنطيّ المزدوج الوجه: عين على الشرق، وعين على الغرب. وحين حاول فلاسفتها المحبّين للسلافيّة أن يؤسّسوا لهويّة روسيّة تتناقض مع ما كانوا يعتبرونه حضارةً غربيّةً فردانيّةً وماحقةً للإنسان، تناسوا درس النسر البيزنطيّ، وتجاهلوا أنّهم هم أنفسهم كانوا جمهرةً من المفكّرين الذين يدينون للغرب بثقافتهم ومنهجهم الفكريّ. كلّ هذا التاريخ يتناقض مع المشروع الفكريّ والسياسيّ الذي يحوكه الساسة الروس اليوم، والذي يقوم على معاداة الحضارة الغربيّة وشيطنة إنجازاتها. روسيا مدعوّة في الراهن إلى العبّ من تراثها العظيم. هذا التراث لم يكن يوماً أحاديّاً. وهو لم يتعملق ويتجلّى إلّا حين لفظ الإيديولوجيّات والخطابات القوميّة الموتورة. هذا هو التحدّي الحقيقيّ للحرب الدائرة اليوم في أوكرانيا. فالقضيّة حضاريّة بالدرجة الأولى، كما تقول فيروز في مسرحيّة «بترا». والسياسة من دون بعدٍ ثقافيّ وحضاريّ تتحوّل إلى هراء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها