الأحد 2022/06/26

آخر تحديث: 06:43 (بيروت)

المطرب کمال حسني... لماذا حاربه عبد الحليم حافظ؟!

الأحد 2022/06/26
increase حجم الخط decrease
حينما كان عبد الحليم حافظ يوطد أركان دولته الغنائية المتنامية العام 1956، بعد أربع سنوات من ظهوره كمطرب، وسنة واحدة على بداية مشواره السينمائي، مرّ في سماء الفن المصري شهاب عجيب تجمعت حوله وبسببه، كل الأضواء، ثم ما لبث أن اختفى مخلفا وراءه القليل من الأغاني والكثير من الغموض، الذي يدفع إلى إعادة التفكير في كل ما حدث.

نعم كان المطرب كمال حسني ولا يزال لغزا استعصي فهمه حتى على كمال حسني نفسه الذي، ظل منذ اعتزاله، متوقفا عند نصف الحقيقة فقط، أي الجانب المتعلق بإبعاده المتعمد عن الحياة الفنية متجاهلا ان الضجة التي صاحبت ظهوره المفاجئ، واللافت كانت متعمدة هي الأخرى، لكن الشيء المؤكد أن اسم عبد الحليم كان حاضرا بقوة في المناسبتين حتى وان اختلف موقعه في الحالتين من مجرد ضحية - كما أظن أنا - عند ظهور كمال حسني، إلى متهم - كما يظن الآخرون - عند اختفائه السريع، فالصحافي الراحل موسی صبري صديق عبد الحليم وصانع نجومية كمال حسني سنة 1956 ظل يكرر في حواراته ومقالاته أنّ هذا المطرب كان الوحيد الذي حاربه عبد الحليم صراحة وسعي إلى تحجيمه، بعد أن أحس بخطورته، ورغم هذا الحسم من رجل صنع وقائع تلك الحكاية فانها تظل محاطة بالغموض والأسرار التي دفنت مع أصحابها...

خدعة ذكية
ففي بداية العام 1956 كان کمال الدین سیور، الموظف في البنك الأهلي في رحلة اعتيادية إلى القناطر الخيرية شمال القاهرة، وهناك مارس هوايته المفضلة وهي الغناء وسط تشجيع زملائه، فنصحه أحد القريبين من الوسط الفني بضرورة التقدّم إلى ركن الهواة في الإذاعة المصرية، الذي كان يشرف عليه حسني الحديدي وعلي فايق زغلول، وبالفعل نجح المطرب الشاب في أن يجذب اذن حسني الحديدي الذي اتي له بفرقة صلاح عرام الموسيقية لتصاحبه وهو يغني أغنية عبد الحليم الشهيرة "توبة" التي لحنها له عبد الوهاب ضمن أغنيات فيلم "أيام وليالي" المعروض في ديسمبر 1955، ومرت فقرة کمال الدين سيور مثل غيرها من فقرات ركن الهواة، لكن سعد لبيب وفهمی عمر صاحبي البرنامج الشهير "مجلة الهواء" - ومن فرط تشابه صوت هذا المطرب في اللون والخامة مع عبد الحليم - هداهما تفكيرهما إلى تحقيق خبطة إذاعية في مجلة الهواء، فأذاعا أولا مقطعا من أغنية "توبة" بصوت کمال حسني ثم أكملا الأغنية بصوت عبد الحليم أو صاحبها الأصلي، وبات على المستمع أن يحدّد من هو حليم ومن هو كمال، فأصبح هذا الأمر هو حديث الناس في تلك الفترة.

وهنا تلقفه الصحافي موسی صبري، رئيس تحرير مجلة "الجيل" الذي قرر تحويله في عدة أسابيع إلى نجم، وهو يقول في مذكراته "50 عاماً في قطار الصحافة": "وعلى صفحات الجيل اكتشفنا مطربا جديدا.
كان اسمه كمال، وأصبح اسمه كمال حسني تيمنا باسم حسني الحديدي، وقد درس في معهد التجارة واشتغل في البنك الاهلي، وقررت أن أتبناه بعد آن استمع إليه جميع الملحنين في مصر، وكان القرار أنه صوت ممتاز وكتبت تحقيقاً طويلاً في الجيل أشرت اليه في الصفحة الأولى من الأخبار يوم صدور الجيل بعنوان "صوت جديد يهز مصر" اقرأ التفاصيل على صفحات الجيل، وأحدث النشر دويا خاصة وأن الملحن محمود الشريف قرر أن يتبنی کمال حسني، ولكن كمال الطويل رفض مراعاة لمشاعر عبد الحليم حافظ الذي تصور في ذلك الوقت ان كمال حسني سيقضي عليه. وعلق كل كتّاب مصر على الصوت الجديد، وكتب عنه محمد حسنين هيكل في يومياته بأخبار اليوم، وبين يوم وليلة أصبح كمال حسني حديث مصر من أقصاها إلى أقصاها، وتعاقدت معه ماری کویني على الظهور في فيلم أمام شادية، ولحن له الموجي ومحمود الشريف ومنير مراد، ثم تهرّب الموجي بعد أن كان متحمسا مراعاة أيضا لصديقه عبد الحليم، حتى عبد الوهاب هاجم كمال حسني دون أن يراه أو يسمعه، وكتبت مقالا هاجمت فيه عبد الوهاب على هذا الحكم الظالم. وبدأ كمال حسني يسجّل اسطوانات جديدة، وكان الفنان محمد فوزي يملك شركة للاسطوانات، وبني ستوديو للتسجيل في منزله بالهرم، وكنت مع كمال حسني عند تسجيل الأغنية، وفوجئنا بحضور عبد الحليم حافظ، كان عبد الحليم قلقا، واستمع إلى صوت كمال حسني، فزاد قلقه لكنه هنأه على صوته الجميل.

واستمر النشر عن كمال حسني عدة أشهر، وطلبته أكثر من شركة إنتاج سينمائي لكن ماري کویني احتكرت عمله في تعاقدها، وظهر الفيلم، ولم يلق نجاحا كبيرا لكنه لم يسقط، وكنت مع كمال حسني في كل خطواته لكن المؤامرات حيكت ضده من كل أصدقاء عبد الحليم، ثمّ سافرت أنا إلى أميركا حيث أمضيت أربعة أشهر خارج مصر، وعدت لأجد أن كمال حسني لم يستطع أن ينتصر على قوى الحرب، كلهم كانوا يتعاملون مع عبد الحليم حافظ، وكلهم تراجعوا بعد أن تحمسوا.. ومات الصوت الجديد الذي هز قلوب مصر فعلاً"...

نعم يا حبيبي نعم
هذا ما رواه موسی صبري، أما كمال حسني نفسه فكانت لديه تفاصيل ما اسماه الصحافي الراحل "مؤامرات أصدقاء عبد الحليم حافظ" حيث يقول: "اتصلت بي الفنانة ماري کویني وعملت معي عقدا لثلاثة أفلام، كما وقع معي أحمد والي مدير الاستوديو عقدا لثلاثة أفلام أخرى وكان شرطهما ألا أتعاقد مع آخرين إلا بموافقتهما! ولم يكن لي خبرة بالتمثيل، فاحضرت لي السيدة ماري کویني من يعلمني أساسيات التمثيل، كيف أمثل وكيف أتكلم وأذكر كان من بينهم ابراهیم عمارة وعبد الرحيم الزرقاني، كما قام الموسيقار محمود الشريف بتدريبي من الناحية الغنائية، كيف أغني وكيف أخذ نفسي وطبقات الصوت وكيفية ضبطها وكنت أذهب إليه مرتين في اليوم صباحا ومساء. وأثناء هذه الجلسات عرض على مأمون الشناوي كلمات أغنية "نعم ياحبيبي نعم" وسعدت بكلماتها ودفعت ماري کویني عربون ثمن الكلمات للشناوي، وكلفت محمود الشريف بتلحين الكلمات لكي أغنيها بالإضافة إلى أغنيات أول فيلم كنت سأمثله مع شادية "ربيع الحب" وأخذ الشريف منها أغنية "لو سلمتك قلبي" ومحمد الموجي "غالي علي" وابراهيم حسين "فين انت غايب عني".

وفجأة وبلا مقدمات، وجدت محمود الشريف يتنازل عن الترحيب بي. وبعد أن كان الدرس مرتين في اليوم، أصبح مرة واحدة، ثم مرتين في الأسبوع، واثناء تسجيلنا في الاستوديو كان معنا الملحن منير مراد وقال لماري كويني إن محمود الشريف رجع في كلامه ومشغول جدا، لأنه بيلحن أغنية لعبد الحليم، وكانت أغنية "حلو وكداب"، وهذه أول مرة بيلحن فيها لعبد الحليم، وعرضت على منير مراد كلمات مأمون الشناوي وقال لي: "يا نهار اسود".. هذه الكلمات بيلحنها كمال الطويل لعبد الحليم حافظ، وطبعا كانت كلمات أغنية (نعم يا حبيبي نعم) وكلمت ماري کویني مأمون الشناوي فقال سأعطيكم أغنية أخرى، وفعلا أعطاني كلمات أغنية "حبي أنا" ولحنها محمد الموجي. وقابلت الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وسمع صوتي واعجب به ووعدني بأن يلحن لی، ولكن لم يكن لي حظ مع أنه صريح جدا ولو صوتي مش كويس كان قالها من أول مقابلة بيتنا". 

ممنوع في أضواء المدينة
     وفي الإذاعة كان الأستاذ محمد حسن الشجاعي المشرف على الموسيقى يرعاني ويسمح لي باختيار كلمات الأغنيات والملحنين، الذين أتعامل معهم وعندما توفی إلى رحمة الله بدأت متاعبي في الإذاعة، وبعد أن عملت مع محمد الموجي وعبد العظيم محمد وحسین جنيد ومدحت عاصم، وجدت المسؤولين في الإذاعة يحاولون فرض كلمات معينة على وملحنين معينين، وعندما كنت أرفض كان الملحن فؤاد حلمي يقول لي: هو دا المقصود! كذلك كنت أشترك في حفلات الإذاعة "ليالي الشرق" وكان الترحاب كبيرا جدا من وجدي الحكيم، وعندما ظهرت حفلات "أضواء المدينة" رفض جلال معوض أن أشترك في أي حفلة من حفلاتها وبدون ابداء أسباب. وعندما وجدت باب الإذاعة موصدا أنتجت أغاني على حسابي وأهديتها للإذاعة ولكنها لم تكن تذاع!

وبعد انتهاء الفيلم الأول "ربيع الحب"، وجدت الحماس لدى ماري کویني يتراجع واتصلت بها لتنفيذ بقية شروط العقد -3 أفلام - وبأحمد والي - ۳ أفلام أخرى - ووجدتهما يتهربان، وأخيرا قال لي أحمد والي، إننا لن نتمكن من اتمام العقد وإذا كنت تريد باقي الثمن في العقد ونخلص على كده؟ ورفضت وقلت مش أنا اللي اخد إحسان. وشعرت أنها عملية انسحاب من الالتزام، واقتصر عملي في تلك الفترة على الحفلات الترفيهية للقوات المسلحة.

وتدريجيا بدأت أنسحب من الساحة الفنية، لأنني لم أكن أستطيع أن أوفي بالتزام أهلى وأولادي بعد أن استقلت من البنك وتفرغت للفن، وعدت للبنك بمعجزة بعد أن وجدت أنها عملية خاسرة من جميع الوجوه، وإلى الآن، لم أجد إجابة على هذه الأسئلة. لماذا انسحبت ماري كويني وأحمد والي من العقد؟ ولماذا لم يلحن لي عبد الوهاب أغنية؟ ولماذا امتنعت الإذاعة عن تقديم أغنيات؟ ولماذا؟ ولماذا؟".
أسئلة حائرة
وإذا كان كمال حسني قد أنهى كلامه بعدة تساؤلات فإن علامات استفهام أخرى تطرح نفسها عند تأمل وقائع هذا المطرب الذي لمع فجأة واختفي فجأة.
 
     أولا: جاءت البداية المصنوعة لكمال حسني والمتعمدة أيضا شبيهة إلى حد التطابق مع البداية الفنية التلقائية غير المتعمدة لعبد الحليم، فكمال حسني أخذ اسم شهرته من الإذاعي حسني الحدیدي، تماماً مثلما أخذ عبد الحليم اسمه من الإذاعي حافظ عبد الوهاب، وفيلم کمال حسني الأول والوحيد "ربيع الحب" كان سيناريو وحوار محمد مصطفی سامي وإخراج ابراهیم عمارة نفس الثنائي الذي ألف وأخرج لعبد الحليم فيلمه الأول "لحن الوفاء" ليس هذا فقط بل إن شادية وحسین ریاض وزوزو نبيل، كانوا نجوما مشتركين في الفيلمين، فما بالنا إذا علمنا أيضا أن المونتاج في الفيلمين كان لكمال أبوالعلا، وكذلك المناظر لعباس حلمي وأما القصة - في الفيلمين فكانت تقوم على المواقف التراجيدية التي تسمح بالتحول من البهجة والمرح إلى التأزم والحزن، فماذا تقولون إذا تذكرتم أن كمال حسني کان اسمه في أحداث فيلم ربيع الحب "جلال" تماما مثلما كان اسم عبد الحليم في "لحن الوفاء" فهل يمكن أن يكون ذلك كله مجرد مصادفة وتشابه غير مقصود؟ لا أعتقد، بل إنني أجزم بأن عبد الحليم كان حاضرا بالتأكيد في أذهان من صنعوا بدايات كمال حسني سواء كان حضورا بهدف المجابهة وكبح جماح الانطلاقة الحليمية، أو استحضارا لنموذج سابق التجهيز للنجاح الذي أثبت فعاليته المطلقة قبل ذلك بقليل.

     ثانيا: يقول الصحافي ثروت فهمي في صحيفة "أخبار النجوم" بتاریخ 30 / 3/ 1996- وهو من محرري الجيل في فترة ظهور كمال حسني - إن موسى صبري رئيس تحرير الجيل، كان على خلاف في تلك الأثناء مع عبد الحليم لأسباب وصفها بالخاصة، مما يوحي بسبق الاصرار لدى الصحافي الراحل لتقويض أركان دولة عبد الحليم المتنامية، لكن هذا يتناقض مع حقيقة مهمة ومعروفة، وهي الصداقة المتينة التي كانت تجمع بين عبد الحليم وصاحبي دار "أخبار اليوم" علي ومصطفى أمين، بل إن فيلم "دليلة" الذي كتبه على أمين لعبد الحليم وعرض في 15 / 10 / 1956 لم يفصله عن فیلم کمال حسني "ربيع الحب" سوى ثلاثة أسابيع فقط، إذ عُرض في الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيول من العام نفسه، فهل من المنطقي أن يقبل علي ومصطفی أمين أن تكون صحفهما أداة متعمدة لضرب صديقهما؟

     ثالثا: لم يكن غريبا بعد كل هذه الضجة الإعلامية التي قادتها الإذاعة المصرية ومجلة "الجيل"، وتبعتها الصحف الأخرى، ثم هذا التشابه اللافت في البدايات أن يشعر عبد الحليم أنه المستهدف من وراء ظهور کمال حسني وكان طبيعيا أن يحاصره القلق على مستقبله خاصة، وأنه لم يكن قد تجاوز أربع سنوات في دنيا الغناء وسنة واحدة في عالم السينما، ولم تكن قد دانت له بعد ناصية الأمور في دولة الطرب، فهل يقف عبد الحليم متفرجا على كل ما يحدث في حرب يراها قد فرضت عليه؟ 

     رابعا: مثلما لم يكن التشابه في بدايات الرجلين مصادفة فإن الانسحابات التي حدثت من حول کمال حسني والانقلابات التي تمت عليه، لم تكن هي الأخرى من قبيل الصدفة، خاصة وأن محمد الموجي ومحمود الشريف ومنير مراد ومأمون الشناوي وجلال معوض في الإذاعة كانوا من المحيطين بعبد الحليم والمرتبطين معه بمصالح تدفعهم إلى إرضائه عند اللزوم.

وهكذا تدعو ملابسات حكاية كمال حسني إلى الاعتقاد بأن عبد الحليم كان المستهدف من وراء ظهور هذا المطرب بينما كان هو - سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة - السبب الحقيقي وراء إبعاد المطرب الصاعد عن ساحة الغناء، وفي الحالتين فإن کمال حسني کان الضحية والخاسر الأكبر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها