السبت 2022/06/25

آخر تحديث: 17:10 (بيروت)

كريم دكروب... بوح شخصيّ عن ولادة مسرح دوار الشمس

السبت 2022/06/25
كريم دكروب... بوح شخصيّ عن ولادة مسرح دوار الشمس
كريم دكروب
increase حجم الخط decrease
ذات صباح من العام 2004، دخلتُ مقهى "بيت الدونتس" في منطقة الطيونة، لشرب فنجان قهوة وتنظيم ملفّ الشهادات المترجمة والمصدّقة مع كدسة من الوثائق الشخصية. كان الملفّ سميكاً وقد كتبتُ عليه من الخارج كلمة "Canada". كنّا قد قررنا، زوجتي وأنا تقديم طلب الهجرة الى كندا مع ابننا زياد (كان بعمر 5 سنوات)، وجاد (لم يكن يتجاوز السنة الأولى).

لماذا الهجرة؟…  
كانت قد اسودّت الدنيا في وجهي بسبب الإقفال النهائي لـ"مسرح المدينة" القديم (كليمنصو) الذي قدّمتُ في أعمالي المسرحية على مدى عشر سنوات، بالإضافة الى توقف عمل "مسرح بيروت". وكان أن أخبرني الفنان رفيق علي أحمد، عن إجراءات طلب الهجرة التي بدأ بها مع عائلته (ثم عدل عن ذلك لأسباب أجهلها) فتحمّستُ وبدأت أحلم مع زوجتي بمستقبل مشرقٍ في بلاد الثلج.

***
الطيونة. 
أعجبني المكان وكأنني أكتشفه من جديد، ولفتتني آثار الحرب البارزة على الأبنية المحيطة، الأبنية التي كنت أراها وأنا طفل من خلف السواتر الترابية. تذكّرت أنّ صاحب المقهى (وهو رجل أعمال سعوديّ كان من زبائن زوجتي مهندسة الديكور) قد أشار في وقت سابق الى هيكل مسرح قيد الإنشاء في كعب البناء، ما زال مدمّراً منذ الحرب الأهلية. تحرّكت حشريتي وسألت شاباً يعمل في المقهى، فأشار الى الناطور. أدخلني الناطور الى المبنى لأكتشف مكاناً واسعاً من دون أعمدة، صُمِّم ليكون مسرحاً، وفي وسط السقف فتحة واسعة قطرها ثلاثة أمتار تسببت بها قذيفة من العيار الثقيل. 

أغمضت عينيّ وتنفّستُ عميقاً. هذا المكان يمكن أن يتحوّل الى أجمل مسرحٍ في بيروت! في نقطة جغرافية مشحونة بالرمزية. هنا بدأت تتشكل خطوط التماس بين "الشعوب" السنّية والشيعية والمسيحية والفلسطينية (مخيم شاتيلا قريب)، وعلى بعد أمتار اشتعل فتيل الحرب الأهلية مع بوسطة عين الرمانة. 
هذا المكان قد يحوّله المسرح الى نقطة لقاء بعدما كان خط تماس…

***
لملمتُ أوراق الهجرة وأدخلتُها في الملف، واتصلت فوراً بالمخرج روجيه عساف: وجدتُ المكان الذي كنا نبحث عنه!
كنا فعلاً قد بدأنا باجتماعات لتأسيس مركز مسرحيّ ثقافيّ يمارس دوراً اجتماعياً تنموياً. مساحة تستكمل تجربة جمعية "شمس" التي حوّلت "مسرح بيروت" الى خليّة عمل وإبداع لشباب المسرح والسينما. أراد روجيه عساف مع حنان حاج علي وعصام بو خالد توسيع التجربة لتشمل مؤسسات تعنى بالسينما والموسيقى ومسرح الدمى (الذي كنت أديره ولا أزال)، بالإضافة الى مؤسسات تعنى بالتنمية والحوار (عبر الناشط كمال شيا)، مع أشخاص آخرين من الفنانين ومحبّي المسرح.


***
بدأت المفاوضات مع المالكين بالتزامن مع الاتصالات لتأمين التمويل (وهو الجانب الأصعب). في أحد الأيام اتصل بي روجيه عساف قائلاً: "انت ورّطتني بالمكان وأنا بدي ورّطك بالقرض". نعم. لقد كان الحل الوحيد لاستئجار المكان والبدء بأعمال الترميم والتأهيل هو طلب قرض بمئات آلاف الدولارات لصالح جمعية "شمس"، على أن يوقّع على القرض ثلاثة أشخاص (روجيه وعصام وأنا).
إنه عبءٌ كبير، التزام قد يجبرني على صرف النظر عن طلب الهجرة! 
بالأساس، لماذا اتخذت قرار الهجرة؟ أليس بسبب إقفال المسارح في بيروت؟ ألا يشكّل مشروع بناء مسرحٍ جديد حافزاً للبقاء؟
بعد تفكير ونقاش مع زوجتي، ألغيت موعد المقابلة مع السفارة، ودخلت في هذه الورطة.

***
استمرّت الورشة شهوراً عديدة. أدارها بحبٍّ كبير المهندس الصديق عارف ياسين (وهو النقيب الحالي للمهندسين)، وقد واجه تحدياً كبيراً بإقفال الفجوة التي أحدثتها القذيفة في سقف المسرح، بالإضافة الى تنظيم المساحات وتوظيفها. استكملت جانين بارود أعمال الهندسة الداخلية لتشكيل هوية المكان. في خريف 2005 تم افتتاح مركز “دوار الشمس”، وهي الزهرة التي تدور في الاتجاهات كافة لتلتقي بنور الشمس. مساحة للإبداع عابرة للطائفية والطوائف.

***
خلال 17 سنة من عمره، صمد المسرح أمام التحديات: حرب 2006، الأزمة الاقتصادية، حوادث السرقة، "حروب الطيونة" المتنوّعة، التوقّف القسري بسبب الجائحة، انفجار المرفأ، الشح في التمويل في فترات متعددة…
وفي هذه الفترة، لا أخفي أنّ مشروع الهجرة لم يغب عن بالي. وقد حضر في أكثر من مناسبة والفرَص اصبحت أكثر واقعية من طلب الهجرة الذي كنت أنوي تقديمه العام 2004. لكن بعد كل أزمة في لبنان، كنت أفاجأ بالحجم المتزايد للجمهور الذي يأتي لحضور أعمال مسرح الدمى، وكأنّ الناس يلجأون الى المسرح مع أولادهم بحثاً عن توازن نفسيّ في مواجهة الأزمات. وفي لحظات عديدة كانت تدمع عيناي وأقول لنفسي: هناك ما يستحقّ البقاء!

***
يوم الخميس 23 حزيران 2022، أعادني قرار بلدية بيروت بإقفال مولّد الكهرباء بالشمع الأحمر الى المربّع الأول مجدداً: الهجرة. 
قد يكون سلوكاً عبثيّاً من دولةٍ مهترئة، لكنه يحمل رمزيّةً عالية. 
قد يكون تدخّل وزير الثقافة مفيداً، استجابةً لصرخاتنا ولحركة فادي أبي سمرا ونقابة الممثلين. ورُفَعتْ الأختام عن المولّد. 
لكن، من يقنع البلديات أن الثقافة حاجةٌ، تماماً مثل الطرق ولمّ النفايات وإنارة الطرق؟
من يقنع المواطنين أن ينتخبوا مجالس بلدية تضع في أولوياتها دعم الثقافة؟
قد يقول البعض أن الطعام والحاجات البدائية أهم من دعم مسرح في مدينةٍ محطّمة، لكن هل كانت لتتحطم هذه المدينة لو كان دعم الثقافة من أولويات حكامها ومواطنيها؟

(*) مدونة نشرها المخرج كريم دكروب في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها