السبت 2022/06/25

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

عبد الرحيم أبو حسين وتأسيس لبنان

السبت 2022/06/25
عبد الرحيم أبو حسين وتأسيس لبنان
increase حجم الخط decrease
لطالما طُرح السؤال، كيف نؤرخ لبنان؟ ذلك أنّ أبسط حدث مفصلي يحصل خلاف على طريقة تفسيره وتدوينه، وفي أبسط قضية نعود إلى الـ"هم" والـ"نحن"، وتتعقد الأمور أن كانت تتعلّق بالحرب الأهلية (1975 -1990)، أو الحقبة العثمانية، وغالباً ما كانت الأبحاث والدراسات اللبنانية التي تتناول تاريخ هذه الإمبراطورية، تأتي من منطلق "قومجي" إيديولوجي على قياس جماعات بعينها، تهدف إلى إرساء صورة سوداء وقاتمة عن مرحلة الهيمنة العثمانية، هذا إلى جانب خلق أساطير وأبطال محليين و"طنيين"، لتعزيز الثقافة الفولكلورية والمتخيّلة.

عدا عن تنميط التاريخ وتوظيفه في السياسة والمسلسلات الهزيلة والمسرحيات اليوتوبية، كان أصحاب الدراسات يغفلون الأرشيف العثماني، ويفضلون الاستناد إلى مصادر تقليدية كمرويات بعض المؤرخين المؤدلجين الذين أثبتت الدراسات أنهم كانوا يزيفون الوقائع ويحرفونها لأغراض سياسية وطائفية. بإزاء هذا، حين لجأ المؤرخ الراحل عبد الرحيم أبو حسين (1951–2022)، وهو كان عضو الجمعية التاريخية للدراسات التركية، إلى كتابة العديد من الدراسات والمقالات التي تعيد قراءة تاريخ لبنان وسوريا ومناطق أخرى في ضوء الأرشيف العثماني، بدا أنه "يتمرد" على السياق التقليدي السائد ويكشف الكثير من الزيف والتزوير، وهو بحسب تلامذته من أبرز من استخدموا هذا الأرشيف بأسلوب منهجي دقيق وواضح، اهتمّ بمصادر التاريخ العثماني بطريقة معمّقة، وكشف العديد من المحطات الأساسية في تاريخها الواسع والمتشعّب في المشرق العربي، وتحديدًا في القرنين السادس والسابع عشر.

ويعدّ أبو حسين، إلى جانب الراحل المؤرّخ كمال الصليبي (1929-2011)، من القلائل الذين انطلقوا بأدواتهم الاستقرائية صوب تفكيك الأفكار المدرسية حول الوطنية اللبنانية وتاريخها في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أبو حسين واضحاً أنه ينطلق في تأريخه، وسرده من حيث شجعه الصليبي الذي يقول في حوار معه: "حينما قررت الحكومة التركية فتح ما سُمي الأرشيف العثماني، صار بمقدور المؤرخ وطلاب المعرفة أن يكونوا على اطلاع أوسع وأعمق بتاريخ لبنان. ولهذا شجعتُ الزميل المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين على دراسة التركية، والتخصص في التركية العثمانية، وإعادة كتابة تاريخ بلاد الشام، مستعملاً المصادر والمحفوظات العثمانية، بالإضافة إلى المصادر الغربية. ولما قام بعمله، برهَنَ أن هناك أشياء كتبتها، وكان حدسي فيها صائباً، وأن هناك أشياء لم أكن صائباً فيها. الأرشيف العثماني فتح أبواباً مهمة لإعادة كتابة تاريخ بلاد الشام عموماً".

وكتاب أبو حسين الأخير "صناعة الأسطورة: حكاية التمرّد الطويل في جبل لبنان" الصادر عن دار "الساقي" (2019) هو ذروة التلاقي مع الصليبي وتحديداً كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، الذي يشرح كيف أثّرت القراءات المختلفة للماضي في أقوال القادة اللبنانيين وأفعالهم، وذلك في فصل عنونه "الحرب على تاريخ لبنان"، كما يشرح في هذا الكتاب كيف أنّ اللبنانيين خاضوا الحرب الأهليّة الأخيرة (1975-1990)، في حقيقة الأمر، حول التاريخ بمقدار ما كانت تلك الحرب لتنظيم تقاسم السّلطة بين مختلف الجماعات الدينيّة والسّياسية والأحزاب في البلد. ويعتبر عبد الرحيم أبو حسين أن "لبنان" كان يتشكل وفقًا لعوامل محلية وإقليمية ودولية على الأقل منذ العقود الأخيرة للقرن السابع عشر...

ويعارض أبو حسين بشكل من التفصيل ما اعتبره "أسطورة" تشير إلى أن لبنان بشكل حصري مجرد نتاج للسياسات الدولية أو المساعي المارونية، ويركز في  مبحثه على شخصية رمزية وأساسية في الوعي التاريخي والمدرسي اللبناني هي شخصية الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572 - 1635)، الذي تلقى سيرتُه إجماعاً من أقطاب أيديولوجيّة متنافرة: القوميّون العرب في سياق ضدّي من الحكم العثماني قاطع الطريق على النّهضة العربية، وفي الطرف النّقيض أولئك المؤمنون بالخصوصيّة اللبنانية في سياق إعادة بعثٍ لسرديّتي "فينيقيا" و"لبنان الملجأ"، مع التذكر بأن سردية فينيقيا التاريخية مختلفة كلياً عن سردية فينيقيا الإيديولوجية والسعيد عقلية (نسبة الى سعيد عقل)، وفكرة "لبنان الملجأ" فيها الكثير من المبالغات وتحتاج دراسة خاصة لتعريتها.

يقول المؤرخ الراحل في حديث اذاعي: "كتابي حول التمرد الطويل الذي صنع لبنان الكبير، على مدى أربعة قرون في مقاومة العثمانيين، هذا التمرّد الذي غيبته المصادر اللبنانية التقليدية، استندتُ في كتابته الى مصادر لم يسبق استعمالها، من مواد الأرشيف العثماني. أنا لا أتعمّد كسر أسطورة فخر الدين المارونية والدرزية، امحاء الصورة الأسطورة جاء من الأرشيف، والامحاء أحياناً ممارسة فعل ديموقراطي، ذلك أن تعدّد الروايات لتاريخ لبنان نعمة وليس نقمة، طالما أن هذه الروايات غير صادرة من منطلقات طائفية". يقرأ أبو حسين التمرد ضمن سلسلة من التمرّدات الطويلة التي شهدها جبل لبنان ضدّ الحكم العثماني في تلك الفترة، وينتقد صاحب كتاب "التمرد الطويل" التاريخ المكتوب من قِبل البطريرك اسطفان الدويهي باعتباره غير حيادي ومُقرّب من المَعنيين، إذ كان يبرئهم من تهمة التمرّد؛ ووصل الأمر به إلى تجاهل الكثير من الحقائق حتى لا يكشف السبب الحقيقي لهجمات العثمانيين ضد المعنيين. وكان دائمًا ما يشير إلى أن القادة الدروز ليسوا السبب في هذه الهجمات، وعمل على طمس الدور الكاثوليكي والأوروبي المساند للدروز ضد العثمانيين آنذاك. فالحديث في العلاقة بين الكرسي البابوي والدروز لم يكن في مصلحة الطائفة الدرزية ولا المارونية. فالصراع الدرزي العثماني لم يكن أمر محدودًا؛ بل هو أمر أثّر في تشكيل لبنان.

وأبو حسين يعتبر أن المقاومة (الدرزية) التي اتّخذت الشكل الذي يسمّيه المؤلف "التّمرّد الطّويل"، أنتجت، عن غير قصد، ما يمكن أن نصفه ببداية تشكّل نوع من الكيان "اللبناني"، وكانت الخطوة الأساسيّة التي مهّدت لقيام متصرفية جبل لبنان (1861) المتمتّعة بالحكم الذّاتي والاعتراف والضّمان الدّوليين. لاحقاً، سيستفيد البطريرك الحويك والمؤرخ بولس نجيم من "صناعة أسطورة فخر الدين المعني" لتبرير مشروع بناء "لبنان الكبير"، والعودة إلى "لبنان فخر الدين المعني".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها