الجمعة 2022/06/24

آخر تحديث: 20:37 (بيروت)

"مياس" ليست الحدث

الجمعة 2022/06/24
"مياس" ليست الحدث
increase حجم الخط decrease

الأزمات السياسية والاقتصادية الكبرى لا توفّر شيئاً. أسئلة الذات والهوية والآخر، بالضرورة، هي أيضاً، مما يلفظه القاع لتتلاطمه الأمواج. فكيف إذا كان لبنان، حيث الأسئلة هذه مكوّنة وعضوية، والآن مُستنطَقة أكثر من أي وقت مضى، إذ تُحشر في عنق الزجاجة مع كل شيء آخر؟ أسئلة ما انفكّت تقضّ الاستقرار داخلياً، عند كل مفترق وبداهة، ستغلي تحت أضواء خارجية، خصوصاً حين لا يتعلق الأمر بالسياسة والإفلاس اللذين دُجّنا بتجاذبات ما عادت مثيرة، بل صارت العادي المُملّ، المُطَبَّع معه نفسياً ونقدياً. في بلد تسوده الفوضى وكل المخالفات الممكنة وغير الممكنة، فيه نقابة لصرافي السوق السوداء، ووزارة طاقة ملُقّبة بوزارة العتمة تنسّق مع أصحاب الاشتراكات غير الشرعية في الأحياء، ثم تختار بلدية عاصمته إقفال مسرح بسبب مولّد كهرباء "غير مطابق للمواصفات"... في هذا البلد، لا بد ستُشَرَّح محاولات الفن بسكاكين الثقافة السائدة. ثقافة الأنا، بل الأنوات، المهشّمة، المتورمة، التائهة، المتصلبة، السائلة، المتصارعة.

أداء فرقة "مياس" اللبنانية وخطابها، في برنامج "أميركا غوت تالنت"، ليس الأول. سبق للفرقة أن شاركت، وبأداءات مشابهة، في "آراب غوت تالنت"، وفي سلسلة نفّذت في بريطانيا خُصصت لأبطال البرنامج حول العالم. لكنها هذه المرة، وبالتزامن مع المأساة اللبنانية المستمرة، والتوتر والاحتقان في مفاصل الحياة كلها وكل النقاش العام، موضوع سُلّط عليه الضوء، في الغرب وبعيونه. فتلقفها مواطنوها بكل المشاعر القصوى الممكنة، كما يُتوقع من مأزومين عائمين على صفحة اللا-يقين. من الفرح العارم، الفائض عن الكأس، المنتشي بأي إنجاز يقول إن هذا الشعب لم يَفنَ تماماً، لم يخسر كامل رصيده، وصولاً إلى نظريات المؤامرة الماسونية، والنقد المتسلّق على النسوي والتاريخي و"الفينيقي"، مروراً بالغضب والخزيّ من سوء تمثيل وطن الأرز.

الاحتجاجات والاحتفاءات تناثرت وتشعبت وتناقضت: تسليع المرأة، خيال الجواري، رمزية العبودية الجنسية، انصياع الراقصات -ببذلة الرقص الشرقي والخمار على وجوههن- للنظرة الاستشراقية الغربية، وفي قول آخر: الخمار ليس في ثقافتنا! التيمة الهندية للرقصة مع الموسيقى المصرية وكلام بعض الراقصات خلال البرنامج عن إثبات ما يمكن للمرأة العربية أن تفعله... هذا كله ليس لبنان! في مقابل لازمة "لبنان الذي يشبهنا" التي تطفو فَرِحة مَرِحَة مزهوة، رغم أنـ"نا" لا نعرف تماماً مَن "نحن"، وهل هناك "كلّ" يجمعنا في "نحن" ما بالحد الأدنى؟ أم أنـ"نا" كثر في لبنان جغرافي واحد لا يُعرَف مَن يجب أن يُشبِه أو مَن هو الذي يُشبهُه؟ مَن/ما هو لبنان بالضبط؟ سؤال حيّر الملايين. وبَعد.. الرقصة أبرزت رموزاً شيطانية وماسونية (العَين والمثلث.. ولذلك نجحت "مياس" واحتفى بها الأميركيون!). الرقصة ضد المسيح، حرام إسلامي، وفي خط موازٍ، مزاودة تكسر مجاذف التحرر من التنميط!

كأنها عودة مبتذلة للكباش الأزلي: لبنان عربي؟ أم ذو وجه عربي؟ هل المرأة اللبنانية تعاني قمعاً، مثل العربية؟ هل ما زال القمع العربي هو نفسه أصلاً؟ هل استغل خطاب "مياس" الخمار والتحدي بالرقص النسائي، من أجل مغازلة "الإكزوتيك" لدى لجنة التحكيم؟ أم أنهن فعلاً ثنية من ثنايا القماشة التي يتحدثن عنها؟ ثمة لبنانيات يرتدين ما يُردن ويعملن ما يُردن ويسهرن ويُغرمن. وثمة مقموعات بالقوانين (أو اللا-قوانين)، ضحايا عنف وتحجيم وقتل. بين اللبنانيات محجبات، ومرتديات البكيني والشورت. هل تستطيع اللبنانية أن تحترف الرقص بلا قيود؟ نعم، ولا. هل الاستيحاء من الهند والصين ومصر، وتصاميم كوريغرافيين أجانب، ينفي التمايز، إن كانت المسابقة مسابقة مواهب وتقنيات؟ ماذا إذن عن مواهب الغناء حيث يغني لبنانيون أم كلثوم وعبد الوهاب؟

كأن اللبنانيات واللبنانيين ضيّعوا نُصُب مرجعياتهم. أو بالأحرى، طرحوا أسئلة لا عيب فيها، لكنهم طالبوا أنفسهم والعالم بإجابات محددة ومعلّبة... والعلب كثيرة! أي لبنان لبنانهم؟ وأي امرأة نساءهم؟ صُور الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات؟ أم صور الحرب الأهلية والتظاهرات في الشوارع وطوابير الخبز والوقود؟ تمايزهم عن محيطهم إلى حد كبير، في الحريات والانفتاح... ثم تراجع الحريات، وهدرها والانفتاح في غياهب الخراب... وحدث مراراً أن خرجت أصوليات دينية وإيديولوجيات استبدادية من رحم مجتمعهم نفسه. وأي فن فنهم؟ الآلهة الآسيوية في لوحة "مياس"، تقاعس عن "قضايانا"... والدبكة؟ أم دليل على إلمام اللبناني بما هو خارجه؟ تطعيم اللوحة بالخصور المتمايلة، هو لمسة لبنانية؟ مشرقية؟ عربية؟ أم أنها "هزة البطن" وفق الكليشيه الهوليوودي؟

"مياس" ليست هي الحدث. ولا "فكرة" لبنان التي هي أفكار، مثلها مثل أي ثقافة. البدعة التي ليست بدعة هي الفسيفساء حينما تحلم بأنها قطع عديدة من لون واحد. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها