الأربعاء 2022/06/22

آخر تحديث: 15:02 (بيروت)

حسن عبدالله: "حين تضيق الأرض... تتسع السماء"

الأربعاء 2022/06/22
حسن عبدالله: "حين تضيق الأرض... تتسع السماء"
لا يبتعد عن شارع الحمرا:
increase حجم الخط decrease
لم أرَ الشاعر حسن عبد الله منذ فترة غير قصيرة. المرة الأخيرة التي صادفته فيها لحظتُ ملامحه المتغيّرة عن تلك التي عهدتها سابقاً. لا أنكر أن رؤيته تركت لدي إنطباعاً لا يوحي بالإطمئنان، وتدفع إلى توقّع الأسوأ. قلت في نفسي، إذ لم أفاتحه بشيء يشير إلى وضعه: قد يكون ضيقاً عابراً، كما يحدث لنا جميعاً، بعدما صرنا على مسافة دنيئة من الشباب الغضّ، وأصبحنا هدفاً سهلاً لأي تقلّب في الظرف، والمزاج، والمناخ.. والوضع الصحي الذي، إن صارع المرض، لكان صراعاً محكوماً ببعض الفشل وبكمٍ ما من الخنوع.
حين تلقيت خبر رحيل حسن، علمت أن شكوكي كانت في محلّها. ربما كان وضعه الصحي معروفاً لأصدقاء آخرين، لكنني جهلت تفاصيله، ولم أتقصَّه، ففضولي شديد الإنحسار في كل الظروف والأزمنة، ولم يجاريني من أجل طرح السؤال الأزلي المريب: كيف الصحة؟

أنّى تذكّرت حسن عبد الله، ستخطر في بالك الصور نفسها، والأمكنة ذاتها، مع تفصيل زائد من هنا، أو ناقص من هناك: قدومه الخفيف إلى اللقاء بلا موعد، تخترقه كلماته التي تسبقه ويلقيها في الجمع، قبل أن يستريح في مقعد، مناداته النادل كي يستلحقه بفنجان "إكسبرس"، مبادرته الجالسين بكلمات، أو موضوع، أو واقعة حدثت معه خلال سيره إلى المقهى، قد تكون من خارج سياق الحديث، الذي أداره، عادة، الشاعر الراحل عصام عبد الله، وشاركت فيه ثلّة من الحاضرين المعتادين على الجلسة المسائية في مكان يتبدّل من حين إلى آخر، لكنه لا يبتعد عن شارع الحمرا: موطن النقاشات ومستجدّات الأوضاع والنميمة. 


ثم تكرّ مسبحة الذكريات الشخصية، القديمة بعضها: ذهابنا إلى الشقة التي إمتلكها في بناية يعقوبيان في الحمرا كي يطلعني عليها، وعلى ما يمكن أن يجري عليها من تحسينات. طلبه مني أن آتي له باللوز الطبيعي، نصف الطري، من بعلبك، كي يمضغه مع الكأس، بدلاً من الموالح المتخمة زيوتاً مضرّة. سؤاله: "مع مين عم تشرب بهالأيام؟".

أذكر دعوته لي لزيارة معرضه التشكيلي في "دار الندوة"(*)، لم أكن أتوقّع أن حسن يرسم. هذه مادة لم يدرسها، لكن ريشته كانت أقرب إلى الإحتراف في بعض المواقع. كان لديه إحساس واضح بعمق المشهد الطبيعي، الذي كان موضوعاً رئيساً في معرضه. ربما عاد السبب إلى إلمامه بالشعر، وترجمته هذا الشعر ألواناً، وتآليف أصاب في بعضها، وإقترب بعضها الآخر من النمط الساذج (الذي هو تيار فني)، لكن أعماله كانت، في معظمها، تستحق المديح. وسروره من مديحي لبعض الأعمال، التي كانت تستحق مديحاً بلا مداهنة. طيبة قلبه التي لا يجاريه فيها سوى طفل لم يعرف الشر، ولم يلقّنه أحد دروس رذائله الزائدة في أيامنا الحاضرة. صراحته التي تخرج من القلب إلى أذُن المستمع من دون تزييف أو تجميل.

كنا نتابع حسن في صفحات فايسبوك في الفترة الأخيرة. مع كل شذرة من شذراته كنا نشعر أنه ما زال بخير، لكنه يغالب الأيام، ولا يغيب عن ذهنه الماضي: "كم أحنّ إلى تلك الأيام.. التي .. لم يكن فيها وقتي ثميناً". "يا لجمال تلك الأيام.. التي كنا نحيا فيها الحياة... من دون أن نراها". "الآن.. وقد أفرغت حمولتي من الكلام... أستقرّ على الأريكة... خفيفاً كظل.. ". "يمكن النظر إلى حياة كل إنسان على أنها مسرحية مرعبة... هو نفسه كاتبها.. وممثلها.. ومشاهدها الوحيد". لا أشك في أن حسن كان يمضغ حلو الأيام، ويتناسى مرّها، وهو يسير في شارع الحمرا، متأبطاً كتاباً أو حزمة أوراق، وتدور في رأسه حكاية سيكتبها لطفل، إلى أن خارت قواه، فذهب إلى مهجعه الأخير مردداً: "حين تضيق الأرض... تتسع السماء".  

(*) وفي العام 2019، أقام عبد الله معرضه تحت عنوان "مقام الأخضر"، والذي ضمّ أربعين لوحة، وقد صرّح حولها: "كنت أعيش في بلدة محاطة بالزرع والاخضرار والمروج والأودية، ولا شك أن لوحاتي هي ترجمة للطبيعة في بلدتي الخيام".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها