الثلاثاء 2022/06/21

آخر تحديث: 21:14 (بيروت)

ريما الرحباني وشوشو الصغير.. بُنوّة لا تنتهي

الثلاثاء 2022/06/21
ريما الرحباني وشوشو الصغير.. بُنوّة لا تنتهي
"شوشو" الأب والابن العام 1970
increase حجم الخط decrease
في عيد الأب هذ العام، اختارت ريما عاصي الرحباني إحياء المناسبة، وذكرى وفاة والدها المصادفة أيضاً يوم عيد الموسيقى، بفيديوهات قديمة تتحدث في أحدها فيروز عن "قسوة" عاصي وسيطرته عليها، كفنانة (وكزوجة أيضاً). فهو كان يرفض عودتها إلى المسرح بعد انتهائها من الغناء، مهما طالب الجمهور برجعتها وغنائها المزيد، وهي كانت تطيعه لأنها "مؤمنة" به، هو الذي ما كان يقبل النقاش. لكن النقاش استعر في الشبكات الاجتماعية. ورغم أن هيمنة عاصي (ومنصور) على فيروز ليست سراً، إلا أن كثيرين وكثيرات، وبأثر من المساحات المتزايدة التي يتمدد فيها الخطاب النسوي منذ بضعة أعوام، وجدوا أنفسهم في موقف متحيّر بين الغضب من فيروز والتعاطف معها، كفنانة ورمز من رموز قليلة يُجمِع على حبها اللبنانيون، كزوجة وامرأة مبدعة وقامة أنثوية تختزل لبنان ومعناه، صوته وصورته. فهل يجوز إعمال المعيار النسوي اليوم بمفعول رجعي قوامه أكثر من نصف قرن؟ وإن كانت الإجابة بالنفي، فماذا عن صباح التي جايلَت فيروز، وكانت حريتها وحياتها راية مرفرفة، واضحة وشفافة وقوية، حتى باتت تُقدّم الآن كرمز نسوي نابض.. وبمفعول زمني رجعي؟...


لكنه عيد الأب، و"الحدث" اليوم حدث ريما الرحباني التي نشرت بعضاً مما تحتكره باسم "الورثة الشرعيين" و"حقوق الملكية الفكرية"... في عصر السوشال ميديا المفتوح ومع إرث الرحابنة الذي يعدّ وطنياً. لعلنا نركن النسوية جانباً لبرهة، لرؤية ريما، بطلة أغنية "الحندقة" التي على الأرجح لم تسلخ عنها جلد البنوّة منذ تلك اللحظة السينمائية التي كرستها طفلة تغني لها فيروز حتى تنام، هي التي ما استطاعت يوماً أن تعيش خارج عباءة أبيها... وأمها. مثلها مثل خضر حسن علاء الدين الذي، لمفارقة أليمة أخرى، توفي اليوم، بالتزامن مع عيدَي الأب والموسيقى اللذين يبدوان اختزالاً لمسيرته... كإبن "شوشو".. بلا فنّ أو بصمة خارج شخصية خضر علاء الدين المسرحية وشواربها الكثّة وإعادة إحيائها بلا تصرف.

لم تستطع ريما الرحباني أن تكون أي شيء، سوى ابنة عاصي وفيروز. مصوّرتهما من دون موهبة تُذكَر، حافظة أرشيفهما، مُشاركة أعمالهما من دون كفاءة فعلية سوى كمُقاتلة موتورة تصيح وتتشاجر مع الجميع من أجل احتكار كل ما يخصهما، حتى ولو كانت صورة لفيروز التقطتها بهاتفها الذكي، وهي مُنظّمة حضور/غياب أمها في أي مساحة عامة متقمّصة دور الوالد الراحل الذي يبدو أن الأيقونة اللبنانية تجاريها فيه، أيضاً بلا كثير نقاش.

ربما لا يبدو منصفاً تسليط الضوء على ريما وحدها في هذا المجال. فالجيل الرحباني الثاني، في عمومه، لم يمزق جلابيب الآباء. والأهم أن شقيقها زياد أيضاً بدا الكثير من فنّه، إن لم يكن معظمه، شكلاً من أشكال محاكاة الأخوين رحباني، سواء بالتمرد على "لبنانويتهما" كخطاب موسيقي ومسرحي وسياسي (الذروة الواضحة لهذا التمرد مسرحية "شي فاشل")، أو باحتضانها وإعادة إنتاجها وتوزيعها. حتى النوع الموسيقي والمسرحي الذي اشتقّه لنفسه، مغايراً، بالجاز واليَسار، بالسخرية المدينية المُرّة، والواقعية السياسية المستولدة من رحم الحرب الأهلية والسردية الطائفية، يراه كثر محاولة تمايز عن تَرِكة لبنان الأخضر والقرية السعيدة، المسيحيانية الطهرانية، الحب العذري والوطنية الفطرية. لكن زياد صار زياد الرحباني، بات اسماً قائماً بذاته، ممتلكاً أرشيفه وخطه الفني الخاص... وكذلك غسان وأسامة وغدي الرحباني مع فوارق الجودة والمعنى. أما معنى عيد الأب، المعنى التاريخي لليوم الذي كُرّس للاحتفاء بالآباء كمؤسِّسين، فلعلّ ريما، ومعها خضر حسن علاء الدين، أفضل من جسّده...

ليسا الوحيدَين، فالعالم مليء بمَن فشلوا في قتل الأب فذابوا فيه هياماً أو قلّة حيلة، ومَن غالوا في قتله والتمثيل بطَيفه، ومَن عاشوا في رمادية الافتتان به ورفضه والتمرد عليه من دون تحقيق أي شيء خاص في المقابل، تماماً كما عبد الوهاب ابن الحاج عبد الغفور في رائعة إحسان عبد القدوس "لن أعيش في جلباب أبي"... لكن عالم الفن والأضواء كاشف ومُتَحَدٍّ وقاسٍ، مثل عاصي الرحباني، ومثل ذكرى "شوشو" الأب الذي رحل عن عالم "شوشو" الابن والأخير ما زال فتى.. عالم لا يرحم ويظهّر الجلاليب وتلابيب النفوس الحائرة في حبها وثورتها.. فكيف إن كان الآباء، فوق ذلك، لامعين؟

يقال إن عيد الأب أصوله العميقة وثنية، تعود إلى جماعات عَبَدة الشمس–النجم الناضح بأبوّة الكون، وأن هناك صِلة بين الأصول هذه، ويوم العيد الذي بات يحلّ في أوائل أيام الصيف وسطوع الشمس بلا منازع. في الولايات المتحدة، طالبَت بالعيد، ونالته، سونورا سمارت دود، العام 1909. استوحته من عظة كنسيّة حضرتها في عيد الأم وشعرت بأنه يجب أن يكون للأب نصيب من هذا التكريم الموصول بالدم والدين والخَلق، هي ابنة المحارب القديم في الحرب الأهلية الذي ربّاها وأخوتها الخمسة بعد وفاة والدتهم. فساندها رجال دين محليون في مطلبها، واعترف الرئيس ليندون جونسون بالمناسبة، ثم أقرّه الرئيس ريتشارد نيكسون عيداً وطنياً العام 1972. وفي أوروبا الكاثوليكية، كان يحتفل بعيد الأب في 19 آذار، تزامناً مع عيد القديس يوسف "الراعي الأبوي" للرب يسوع، ثم تكرّس في 19 حزيران. الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية كانت تحيي "يوم الأجداد" في الأحد الثاني قبل ميلاد المسيح، محتفلة بالآباء المؤسِّسين للإنسانية بخيالها التوحيدي، بدءاً من آدم، وبتركيز خاص على ابراهيم الذي خاطبه الرب في "سفر التكوين" فقال: "من بذرتك تُبارَك كل أمم الأرض"، وما زال هذا اليوم واحداً من بواكير عيد الأب الذي نعرف راهناً، وإن غيّره المحتفون والمُحتَفى بهم.
ربما ما عاد الآباء كلهم ظلال الرب الأب الأصلي، والمؤكد أن كل الأبناء لم يهجروا خيمة المؤسِّس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها