لم تكن "الكواكب" مجرد مجلة فنية عابرة، كل المجلات الفنية التي ظهرت قبلها أو معها أو حتى بعدها، أصابها العطب والتفكك، فكان مصيرها إلى زوال. أما "الكواكب" فبقيت تتحدى كل المشكلات التي تواجه الصحافة الورقية فى زمن الإنترنت، وتصر على أداء رسالتها في دعم الفن الجاد، دفاعاً عن حركة التنوير، حتى أضحت واحدة من خمس إصدارات مصرية فقط حافظت على استمراريتها حتى اليوم، وهي: الأهرام(1875)، الهلال(1892)، المصور(1924)، روز اليوسف(1925)، والكواكب(1932). ولا عجب إذا علمنا أن ثلاثة من هذه الإصدارات الخمسة هي من بنات مؤسسة دار الهلال.
وحينما صدر العدد الأول من مجلة الكواكب في 28 آذار/مارس 1932 كانت الحركة الفنية في مصر تمر بمرحلة انتقالية شملت العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في ما عُرف بفن ما بين الحربين العالميتين، مرحلة كانت شديدة التفاعلات والتداخلات من جانب، وعظيمة التجارب والمحاولات من جانب آخر. وكان من الضروري وسط هذا الجو أن تظهر مجلة فنية متخصصة تكون لسان حال الفن المصري حينما يريد التعبير عن نفسه، ومرآة تعكس أخطاءه حينما نريد تقويمه.
فما الذي كانت عليه خريطة الفن المصري حينما فكر الشقيقان إميل وشكري زيدان، صاحبا دار الهلال، في إصدار مجلة الكواكب العام 1932؟
تجارب رائدة
قبل ظهور "الكواكب"، كانت لائحة أفلام السينما المصرية لا تضم سوی 15 فيلماً: "ليلى"(1927)، "قبلة في الصحراء" و"سعاد الغجرية" و"البحر بيضحك" و"فاجعة فوق الهرم"(1928)، "بنت النيل وغادة الصحراء"(1929)، "زینب" و"تحت ضوء القمر" و"الضحية" و"جناية منتصف الليل" و"الهواية" و"معجزة الحب"(1930)، و"صاحب السعادة" و"کشکش بيه" و"وخز الضمير"(1931). ولم تكن قد مضت على صناعة السينما في مصر إلا خمس سنوات قضتها في صمت رهيب قبل اختراع شريط الصوت المصاحب لأفلامها السينمائية. وشأن أي جديد، فإن هذه السنوات الخمس بأفلامها الخمسة عشر كانت عبارة عن تجارب أولى يحاول أصحابها الرواد الأوائل کشف أسرار هذا الفن الجديد، لكنها مهدت الطريق لظهور سینما مصرية حقيقية في ما بعد. كذلك صنعت تلك الأفلام نجوماً جدد عرفهم الجمهور للمرة الأولى في الشاشة الفضية، أمثال
عزيزة أمير و
بهيجة حافظ و
بدر لاما و
آسيا داغر و
ماري كویني و
ثريا رفعت، أو دعمت نجومية الوافدين من المسرح أمثال
نجيب الريحاني و
أمين عطا الله و
فاطمة رشدي و
فردوس حسن و
سراج منیر.
وكان على "الكواكب" عند ظهورها أن تقدم للقاری نجومه الجدد خصوصاً أن الجماهير لم تكن تعرف عن معظمهم شيئاً، فانتشرت في صفحات الأعداد الأولى من "الكواكب" أخبار عزيزة أمير، بطلة فيلمي "لیلی" و"بنت النيل"، وآسيا داغر بطلة فيلمي "غادة الصحراء" و"وخز الضمير"، و
فاطمة رشدي بطلة فيلم "فاجعة فوق الهرم"، و
بهيجة حافظ بطلة فيلم "زينب"... ومن أمثلة ذلك ما نشر في العدد الأول بتاريخ 28/3/1932 تحت عنوان "ملايين في أمريكا وملاليم في مصر" وجاء فيه أن نجوم ونجمات أميركا أصبحوا من ذوي الملايين بعد عملهم بالسينما بينما جلبت السينما على نجومنا ونجماتنا المشاكل والقضايا وضياع الثروات. ومضت المجلة تقول: "لنتساءل الآن عن ثروات كواكبنا الذين يجاهدون جهاد الجبابرة ليشقوا لأنفسهم طريقاً في سبيل النجاح السينمائي، فأما السيدة عزيزة أمير زعيمة السينما في مصر فقد كانت تمتلك عند دخولها مضمار السينما ثروة تتراوح بين عشرين وثلاثين ألف جنيه، أما الآن وبعدما أخرجت أفلامها وكانت أولى ممثلات مصر وكانت أفلامها فتحاً جديداً في عالم الفن فإن ثروتها قد ضاع معظمها في سبيل السينما. والشقيقان ابراهیم افندي لاما وبدر أفندي لاما، مديرا شركة كندور فیلم، بدأ عملهما في السينما ومعهما ثروة تتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألف جنيه وأخرجا ثلاثة أفلام لا بأس بها عرضت في كل دور السينما في مصر وسوريا ولبنان والعراق واليونان، وكانت النتيجة أنهما أصبحا الآن لا يملكان من هذه الثروة إلا ذكراها، والسيدة بهيجة حافظ أول سيدة أرستقراطية اشتغلت بالسينما لم تجد الآن إلا القضايا والمشاكل التي تكاد تستنفد ما بقي لها من المال، وأما بقية الكواكب مثل أمينة رزق ونادرة وأسيا إلخ فإن ثرواتهن تقدر بكلمتين فقط... لا شيء".
ثم عرفت السينما شريط الصوت، وحينما نطقت العام 1932 كان العدد الأول للكواكب في طليعة من باركوا هذه الخطوة المهمة. فكانت المطربة نادرة بطلة أول فيلم غنائي وثاني فيلم مصري ناطق "أنشودة الفؤاد" هي نجمة غلاف أول أعداد "الكواكب"، وفي داخل العدد متابعة أخبار الفيلم. وبنزول النجمين الكبيرين يوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب، مجال الإنتاج والتمثيل السينمائي، الأول بفيلم "أولاد الذوات" العام 1932 أول الأفلام الروائية الناطقة والذي عرض في آذار/مارس من العام نفسه والشهر نفسه لصدور "الكواكب"، والثاني بفيلم "الوردة البيضاء" العام 1933، ازداد اهتمام المجلة بمتابعة أخبار كل ما يستجد من إنتاجهما كما خصصت باباً مستقلاً بعنوان "في عالم السينما" مهمته تقديم تغطية خبرية أسبوعية لكل ما يتعلق بفن السينما.
وخلال السنوات الثلاث الأولى من عمر "الكواكب"، ظهر 18 فیلماً جديداً كان معظمها أكثر نضجاً من سابقيها، خصوصاً بعد الاستفادة من دخول عنصر الصوت، وقد تابعت المجلة أخبار واستعدادات غالبية هذه الأفلام.
الريحاني ويوسف وهبي
وعلى مستوى المسرح، كانت الحركة المسرحية في ذلك الوقت أكثر حيوية من السينما باعتبار أن تجربة المسرح المصري أطول عمراً وأكثر رسوخاً. لكن محاولات جورج أبيض في المسرح التراجيدي، وسلامة حجازي في المسرح الغنائي، قبل الحرب العالمية الأولى وأثنائها، كانت أشبه بمن يسبح وحده ضد تيار من التسطح والاسترزاق. وعقب ثورة 1919 بما أحدثته من تغييرات في الواقع المصري وما أفرزته من أسماء جديدة في شتى المجالات، لم يعد جورج أبيض وحده في الساحة، بعدما كوّن يوسف وهبي في آذار/مارس 1923 فرقة رمسيس المسرحية، وبعدما ثبتت أيضاً أقدام منيرة المهدية ونجيب الريحاني وعلي الكسار وأمين عطا الله، ووضحت إسهامات زکي طليمات وعزيز عيد في ترقية المسرح المصري. وحينما حل عقد الثلاثينيات، كان المسرح قد قطع شوطاً لا بأس به نحو ترسيخ الممارسة، وافتتح يوسف وهبي مدينة رمسيس للفنون في المكان الذي يشغله الآن السيرك القومي ومسرح البالون بالعجوزة، وبدأت الدعوة تزداد إلى إنشاء معهد للتمثيل يغذي الحركة المسرحية بالطاقات الفنية الدارسة وهو ما تحقق بصفة مؤقتة العام 1932. واكبت "الكواكب" الحدث، فظهرت في غلاف أحد الأعداد الفنانة زوزو حمدي الحكيم، التي كان ترتيبها الأولى على طلاب هذا المعهد الوليد، وأيضاً تعالت الأصوات التي طالبت بفرقة قومية للتمثيل تهتم بتقديم روائع المسرحين العربي والعالمي، وقد تحقق ذلك بالفعل العام 1935 عندما افتتحت الفرقة القومية المصرية (المسرح القومي في ما بعد) عروضها بمسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم. في هذا الجو ظهرت "الكواكب" وعنيت بكل قضايا المسرح وهموم نجومه، وأفردت لهم الصفحات.
الموسيقى والغناء أيضاً
ربما يكون الغناء هو أكثر الفنون مروراً بالمرحلة الانتقالية التي ظهرت فيها "الكواكب"، وعليه فإن ملامح خريطة الموسيقى والغناء في بداية الثلاثينيات كانت على النحو التالي: فريق يسعى للتطور بخطوات وثابة ويمثله عبد الوهاب والقصبجي، وفريق متمسك بالقديم التقليدي ومثاله صالح عبد الحي وداود حسني وزکي مراد، وفريق ثالث يتنازعه إحساسه بضرورة الحفاظ على الموروث ورغبته في ارتياد آفاق جديدة للغناء، وكانت أم كلثوم على رأس هذا الفريق. وظهرت "الكواكب" في اليوم نفسه - 28/3/1932 - الذي استضافت فيه القاهرة المؤتمر الدولي الأول للموسيقى العربية الذي كان بين أهدافه تثبيت ملامح الشخصية الموسيقية العربية. ولم تتخلف المجلة عن متابعة القضايا الموسيقية المطروحة من خلال اهتمامها بأخبار نجوم الغناء، أم كلثوم وعبد الوهاب وفتحية أحمد ومنيرة المهدية ونادرة وغيرهم من الأصوات التي كانت قد بدأت في الظهور في تلك الفترة.
ويعكس الموضوع المنشور في 12/6/1932 عن أم كلثوم، اهتمام المجلة بأخبار نجوم الموسيقى والغناء وما أحدثوه من تطور، ومما جاء فيه: "صوت أم كلثوم ملائكي يملأ الروح بهجة وقد كان للإنشاد الديني وترتيل آي الذكر الحكيم أثر طيب في ما نراه اليوم من حسن إخراجها للمقاطع وفهمها الدقيق للمعاني، ولأم كلثوم ميزة تمتاز بها عن غيرها، تلك هي حسن اختيارها الأدوار التي تلائم الوسط الذي تغنى فيه، وهناك حسنة أخرى نسجلها لها فخورين تلك أنها هي التي أخرجتنا بحسن ذوقها في الاختيار من ماض مخجل كنا نسمع فيه في الحفلات بل وفي الدور والطرقات الأغاني المبتذلة إلى الغناء السامي الجديد الذي جاءت به عصارة تفكير أمثال شاعرنا الحلو رامي ليكون أساسا للأغنية المصرية الحديثة".
في هذه الأجواء الفنية الخاصة جداً ظهرت "الكواكب" لتهتم بكل مجالات الفنون، وليس بفن بعينه مثلما كان يحدث في بعض المطبوعات الأخرى الموجودة في ذلك الوقت... لكن كيف سارت رحلة "الكواكب" عبر تسعين عاماً؟
إصدار مستقل
ظهر العدد الأول من الكواكب يوم الاثنين 28 آذار/مارس 1932 وفي غلافه عبارة "ملحق فني للمصور"، الأمر الذي رسخ الاعتقاد طوال كل هذه السنين بأنها كانت بالفعل ملحقاً تابعاً لمجلة "المصور". لكن الحقيقة التي يهمني التأكيد عليها اليوم أن "الكواكب" كانت مجلة مستقلة تماماً، فقد كانت تصدر يوم الإثنين من كل أسبوع، وسعر النسخة خمسة مليمات، بينما تصدر مجلة "المصور" صباح كل يوم جمعة وبسعر عشرة مليمات، فكيف تكون الكواكب التي تصدر يوم الاثنين ملحقاً لمجلة تصدر يوم الجمعة، وهذه بسعر، وتلك بآخر؟ فضلاً عن أن عبارة "ملحق فني للمصور" تعني أنها كانت الجانب المكمل للدور الصحافي الذي تقوم به مجلة المصور، الشقيقة الكبرى للكواكب، لا سيما أن المصور منذ اليوم الذي ظهرت فيه الكواكب اختفت تقريباً الصفحات الفنية من أعدادها، وأغلب الظن أن صاحبي دار الهلال إميل وشكري زیدان کتبا هذه العبارة لأسباب شكلية أو إجرائية آنذاك.
رؤساء التحرير
وظلّت الكواكب حتى العام 1949 لا تذكر في صفحاتها اسم رئيس تحريرها، حينما كان يتولى الإشراف المباشر عليها فى إصدارها الشقيقان أميل وشكري زیدان، مع إسهام واضح لفكري باشا أباظة أحد أقطاب دار الهلال، ثم ظهر اسم فهيم نجيب سنة 1949، كأول رئيس تحرير معلن للمجلة حتى سنة 1959، حين أعقبه مجدي فهمي حتى 1962، ثم سعد الدين توفيق حتى 1966، فرجاء النقاش (ولاية أولى) حتى 1970، قبل تولى راجي عنايت المسؤولية لمدة عام فقط، أعقبته فترة انتقالية وجيزة بلا اسم رئيس تحرير، وهي الفترة التي كان يديرها تحريرياً الكاتب صالح مرسي، ثم جاء كمال النجمي حتى سنة 1981، فحسن إمام عمر حتى 1984، ثم حسن شاه، أول سيدة تشغل هذا المنصب فى الكواكب، فرجاء النقاش (ولاية ثانية) بداية من 1993، ثم محمود سعد بين 2002 و2006، وفوزي إبراهيم حتى 2011، وهشام الصواف حتى 2012، ثم أشرف غريب حتى 2014، فأمينة الشريف إلى 2017، ومحمد المكاوي إلى 2020 قبل أن تتولى المهمة سمر الدسوقي رئيسة التحرير الحالية.
وطوال تاريخها الممتد عبر 90 عاماً، كانت "الكواكب" دائماً فى قلب الأحداث الكبرى، فكانت مع جموع الفنانين والجنود على جبهات القتال في الحروب المصرية الإسرائيلية، ومع الفنانين في مساعيهم ضمن المجهود الحربي ومشاريع التبرع بالدم والتطوع في الهلال الأحمر وقت الحروب والأزمات. واخترقت مع الممثلة الراحلة نادية لطفي الحصار الإسرائيلي لبيروت ومنظمة التحرير الفلسطينية فى بيروت العام 1982، وكانت مع عادل إمام وقت زيارته للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات فى تونس بعد الخروج من لبنان، وناصرت كل قضايا أمتها في مصر وفلسطين ولبنان والعراق والخليج وكافة دول المنطقة.
كما ظلت "الكواكب" لسان حال الفنانين المصريين والعرب، تعبّر عن همومهم وتطرح قضاياهم من دون أن يستقطبها تيار بعينه، وإنما كانت معنية فقط بدعم ومساندة كل إبداع أصيل، ولذلك كانت الصدمة هائلة تجاه قرار توقف "الكواكب" عن الصدور بعد كل هذا الإرث العظيم من النجاح والتفرد.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها