الأحد 2022/06/19

آخر تحديث: 09:12 (بيروت)

"ليبمو" اللجوء: بين نظر الى الماضي وانتظار المستقبل

الأحد 2022/06/19
increase حجم الخط decrease
استطاع فيلم "ليمبو" للمخرج الإسكتلندي، بن شاروك أن يبين موضع اللاجئين السوريين من علاقتهم ببلدهم الأم ومن علاقتهم من البلد المستضيف لهم. إذ إنه أبدى شخصيته الأساس، أي عازف العود عمر، كأنه في الوسط بين بلدين، واحد فرّ منه على متن مركب بحري، وآخر، أي بريطانيا، لم تقر بوجوده الشرعي على أرضها بعد، بالتالي، هو حل في ما يشبه الخلاء.

بالطبع، كاد الفيلم أن يجعل من حضور عمر في هذا الخلاء حضوراً منمطاً، ركيزته الذكريات اياها، عن الياسمين الدمشقي والمطبخ الشامي، ولكنه، سرعان ما ابتعد عن هذا التنميط، لكي يبرز المسند الأساس لذلك الحضور، اي وتيرة العيش في فضاء، عنوانه النظر الى الماضي وانتظار المستقبل.

النظر إلى الماضي يعني أن عمر، وفي حين حضوره في ذلك الخلاء، كان ينظر إلى ماضيه، الذي كان يدور حول الموسيقى. وهو لا يلتفت إليه سوى لأنه الآن لا يستطيع العزف على عوده، فعلى الرغم من كونه يحمله أينما ذهب، الا أن حمله له يبدو حملا لنعش لا أكثر ولا أقل. مرد أنه لا يعزف عليه، يرتبط بكسر يده، كما أنه، وفي الوقت نفسه، يتعلق بأنه يلتقط أنفاسه بعد مغامرة المركب الذي أوصله إلى اسكتلندا. فعمر يحتاج وقتاً ليرمم ما انكسر فيه، ولهذا، هو يقضي يومه اما في غرفته، او مع غيره من اللاجئين. هنا، لا بد من ملاحظة، وهي ان تجسيد هذه الشخصية ليس بأمر سهل، لا سيما من ناحية صلتها بماضيها، ولكن، الممثل عامر مصري تمكن منها، إذ إنه قدمها من دون ان يجعلها كاريكاتورية: بين انكسارها بلا أي مغالاة في ذلك، أي أنه جعل من انكسارها انكسارا هادئاً على العموم.


على أنّ عمر لا ينظر إلى الماضي فقط، إنما ينتظر المستقبل أيضاً، وهذا الانتظار، الذي طال، طبع كل حضور في الخلاء، مثلما طبع كل صلته به. فيظهر الفيلم، وبدقة، كيف يحاول عمر تخفيف هذا الانتظار، كما يظهر كيف يحاول تحاشيه من خلال تجواله، أو من خلال كلامه القليل مع غيره اللاجئين الذي يعيشون معه في المنزل. انتظار عمر ليس منقطعاً أيضاً عن علاقته بالموسيقى، فهو يترقّب الإقرار بحقه باللجوء، وفي الوقت نفسه، يترقب عزفه العود من جديد. بين الترقبين، هناك ذلك الفيديو الذي يتفرج عليه من حفلة له في سوريا. بهذا الفيديو، يحاول انتظار ما سيحل به من ناحية لجوئه، وبهذا الفيديو أيضا، يقيس مدى اقترابه من العزف بعد تجبير كسره. 

فعليا، الجمع بين نظر عمر إلى الماضي وانتظاره المستقبل قد حصل في الفيلم على أساس الوتيرة التي عبرت عن حضور هذه الشخصية بينهما. الوتيرة، في هذا السياق، تعني البطء الذي جعل كل الوقائع على نحوه، لتأتي ثقيلة للغاية، كما لو أنها، وبفعل حصولها في الخلاء، تبدو أنها لا تريد أن تحصل. المفارقة ان بطء الوقائع، وصحيح أنه يبدو امتناعا لها عن الحدوث، ولكنها، حين تجد طريقها إلى عيش عمر، وإلى عيش رفاقه، تبدو على اثر كبير. كما لو أن الوقائع البطيئة تحدث أكثر من تلك السريعة، لا سيما أن عمر، التي يتلقاها، يفعل ذلك على سبيل تبديدها لانتظاره. أهمية هذه الوقائع البطيئة، والقليلة أيضاً، أنها لا تخرق انتظاره المستقبل من دون أن تجنبه النظر إلى الماضي، بحيث أن الاثنين هنا يغذيان بعضهما البعض-ينظر لأنه ينتظر، وينتظر لأنه ينظر- بالتالي، تفلته منهما، ولكن، من دون أن تجعل من الخلاء، الذي يقيم به، مكان مأهولا. فالخلاء هذا أقوى من أن تبدله بعض الوقائع، لا بل إنه يكاد يطفئها. في هذا السياق، لا مناص من الاشارة إلى أنّ الكاميرا لم تصوّر هذا الخلاء بوصفه حيزاً موحشا فقط، ولكنها، لم تقلبه إلى حيز فردوسي، لم تجعله صحراء باهتة ولا حديقة ملونة، بل مجرد مكان، سمته الأساس هي انعدام اكتراثه. في هذا المكان، حضر عمر، ومن بعده، شُفيت يده، وعزف على عوده، الذي يصير، وبهذا، آلة لترميمه، او بالأحرى لترميم مكسوره.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها