الأحد 2022/06/19

آخر تحديث: 09:10 (بيروت)

قد آن للهلال الأرثوذكسيّ أن يُغلق…

الأحد 2022/06/19
قد آن للهلال الأرثوذكسيّ أن يُغلق…
آن للكنائس الأرثوذكسيّة أن تتخلّى عن مغازلة الدولة طمعاً في امتيازات وحقوق
increase حجم الخط decrease
يقول أحد الأصدقاء، وهو يرأس مؤسّسةً أرثوذكسيّةً فكريّةً ذات سمعة عالميّة، إنّه آن للأرثوذكس أن يغلقوا الهلال الذي فتحوه بعد سقوط القسطنطينيّة العام1453. ما هي دلالات هذا القول الذي يبدو، للوهلة الأولى، غرائبيّاً ومغلّفاً بالالتباس؟
ليس من المغالاة في شيء الاعتبار أنّ معظم الكنائس الأرثوذكسيّة، وعلى رأسها الكنائس السلافيّة في روسيا وأوكرانيا وصربيا وبلغاريا، فضلاً عن كنيسة رومانيا، انبثقت من رحم الإمبراطوريّة البيزنطيّة. بيزنطية، الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة، من حيث هي مدًى علميّ وفكريّ وفنّيّ وحضور ثقافيّ وروحيّ، تتخطّى بكثير بلاد اليونان الحاليّة، حتّى ولو كانت اللغة التي استخدمتها منذ القرن السابع هي اليونانيّة، وذلك بعد أن تخلّت شيئاً فشيئاً عن اللاتينيّة بوصفها اللغة الرسميّة في الإدارة والجيش. إبّان القرن الرابع عشر، أي بعدما كانت الحملة الصليبيّة الرابعة قد أرهقت القسطنطينيّة وقضم بنو عثمان معظم المقاطعات الرومانيّة الشرقيّة، كانت بيزنطية لا تزال تتألّق فكراً وثقافةً. علماؤها يمعنون في توهّج الإرث الفلسفيّ اليونانيّ القديم، وفنّانوها يملأون اليونان وإيطاليا من ضياء الألوهة المنبعث من قسمات وجه يسوع الناصريّ. وحين آن أوان سقوط القسطنطينيّة، ارتحل كثر من علمائها وفلاسفتها إلى الغرب، وإلى إيطاليا بالذات، حاملين معهم ما اختزنته عاصمتهم من تراكم معرفيّ ومئات المخطوطات القديمة، وأسهموا على نحو حاسم في صناعة النهضة الأوروبيّة. فانطلاق عصر النهضة من إيطاليا الجنوبيّة والوسطى لم يكن محض مصادفة. وقد كان للالتماعات الآتية من ضفاف البوسفور دور حاسم في وضع إرهاصات هذه النهضة. يضاف إلى ذلك انتقال بعض النخب السياسيّة والفنّيّة من القسطنطينيّة إلى رومانيا الحاليّة، وإلى بلاد الروسيا، التي كانت عاصمتها الثقافيّة قد أصبحت موسكو بعدما ورثت هذه كييف.


غير أنّ سقوط القسطنطينيّة أصاب الأرثوذكسيّة النائمة في الحضن البيزنطيّ بالوهن والانقباض. ولعلّ هذا الانقباض تغذّى من عاملين رئيسيّين: الأوّل هو انهيار الهيكليّة السياسيّة التي شكّلت طوال قرون دعامة الأرثوذكسيّة الدينيّة. فبيزنطية لم تعرف القول بالفصل بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة، حتّى إنّ القيصر كان يضطلع فيها بدور حماية الكنيسة ورعايتها والمحافظة على حقوقها، وذلك بموجب منظومة فكريّة تُعرف بالسيمفونيّا، أي بالاتّفاق والتكامل بين القيصر والبطريرك. والجدير بالذكر أنّ فكرة السيمفونيّا هذه لا تقول بالتساوي بين هذين، بل تعترف بالصدارة للأوّل، ما كان يستتبع في معظم الأحيان أنّه كانت للقيصر الكلمة الأخيرة في اختيار البطريرك. العامل الثاني هو العلاقة المتشنّجة بالغرب المسيحيّ. تعمّق هذا التشنّج بعد غزو الفرنجة للقسطنطينيّة العام 1204. ولا شكّ في أنّ البيزنطيّين أخطأوا في قراءة خريطة العلاقات السياسيّة بين البابا الرومانيّ وأمراء الغرب. فهؤلاء ما كانوا مهتمّين بإعادة وصل ما انقطع بين المسيحيّة الشرقيّة والمسيحيّة الغربيّة. وقد آثروا التشبّث بمصالحهم التجاريّة على طول السواحل المتوسّطيّة على نصرة الإمبراطوريّة العجوز. وقد أفضى تخلّي أمراء أوروبّا عن القسطنطينيّة، وعدم مسارعتهم إلى نجدتها بجيش وازن، إلى مرارة في النفس البيزنطيّة جعلتها تشعر بالحذر تجاه كلّ ما يأتي من الغرب، بما فيه إنجازاته الثقافيّة. 


سقطت القسطنطينيّة، وواصل الغرب المسيحيّ مشواره المضطرد في رحاب المعرفة، والذي يضرب جذوره في ما بات يُعرف اليوم بوثبة القرون الوسطى، حين انتشرت الجامعات من سواحل الأبيض المتوسّط الشماليّة وصولاً إلى الجزر البريطانيّة. الشعوب الأرثوذكسيّة لم تلحق بركاب هذه النقلة المعرفيّة إلّا جزئيّاً بسبب انهيار البنى السياسيّة للإمبراطوريّة البيزنطيّة والتقوقع حيال الغرب، مع أنّه كانت لبيزنطية، كما ذكرنا، اليد الطولى في زرع بذور النهضة الأوروبيّة. وحين دقّت ساعة التنوير الأوروبيّ في القرن الثامن عشر ونظّر فلاسفته لضرورة الفصل بين السياسة والدين، كانت الأرثوذكسيّة لا تزال تنوء تحت عقدة تشظّي عالمها القديم القائم على احتضان الدولة للكنيسة، وكاهلها تثقله المأزوميّة المفرطة من الغرب الذي راح يتطوّر علميّاً وفكريّاً ومجتمعيّاً على نحو غير مسبوق. هنا يكمن مغزى القول الذي لا يتعب الصديق الأرثوذكسيّ من ترداده أنّه آن الأوان أن تغلق الشعوب الأرثوذكسيّة الهلال الذي فتحته بسقوط القسطنطينيّة، أي أن تتوقّف عن النظر بعين الريبة إلى الحداثة الغربيّة، وأن تنخرط اليوم في صناعة الحضارة العالميّة متخلّيةً عن عقد نقصها وماسحةً جروح التاريخ بزيت قيامة الناصريّ من غياهب الموت.


لا شكّ في أنّه يمكن تهجّي مستلزمات العلاقة بين الأرثوذكسيّة والحداثة على غير صعيد. هذه المستلزمات تستحقّ تفكّراً عميقاً، وتستحقّ التوقّف عندها في سياقات أوسع. لكنّ الحرب الدائرة اليوم على الأرض الأوكرانيّة تحيلنا خصوصاً إلى تشابكات العلاقة الملتبسة بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة لا في الكرملين فحسب، بل في المدى الأرثوذكسيّ برمّته من موسكو مروراً بدمشق والقاهرة وصولاً إلى أثينا وما بعدها. بكلّ بساطة، وكما كتب الصديق الدكتور أنطوان قربان في إحدى مقالاته الأخيرة باللغة الفرنسيّة، لقد انتهت منظومة السيمفونيّا البيزنطيّة، وأعلنت إفلاسها. فالكنيسة التي ترتبط بالحسابات السياسيّة مآلها الحتميّ الخضوع للساسة، أيّ لمعادلات القوّة في هذا العالم الذي تصنعه السياسة، وتصنعه المصالح الاقتصاديّة، وذلك على حساب الإنجيل الذي ينتصر للمستضعفين في الأرض، ويحبّ الغريب والفقير والجائع والمريض والجائع. لقد آن الأوان للشعوب المدعوة أرثوذكسيّة أن تعيد النظر في كيفيّة مقاربتها للعلاقة بين الكنيسة والدولة. وآن للكنائس الأرثوذكسيّة أن تتخلّى عن مغازلة الدولة طمعاً في امتيازات وحقوق، وأن تعمل جاهدةً على إقرار نموذج حياديّة الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من الأديان والأعراق والألوان والإثنيات كافّةً. بلى بلى، لقد آن الأوان لهذا الهلال الذي فتحه الأرثوذكس العام 1453 أن يُغلق إلى غير رجعة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها