الأحد 2022/06/19

آخر تحديث: 08:55 (بيروت)

جان لوي ترينتينيان.. وداعاً لممثل خجول ومتنوع

الأحد 2022/06/19
increase حجم الخط decrease

 

لم يكن أبداً ممثلاً صاحب شخصية جذابة وشعبية مثل جان بول بلموندو، فضلاً عن نجومية ممثل بحجم آلان ديلون، أو حتى "برستيج" جان بيير لو، معشوق "الموجة الفرنسية الجديدة". ومع ذلك، فإن جان لوي ترينتينيان - الراحل عن عالمنا يوم الجمعة عن عمر يناهز 91 عاماً في منزله في إقليم بروفانس (جنوب فرنسا)، المنطقة ذاتها التي ولد فيها وحيث اعتنى بمزارع العنب خاصته - أصبح، بالرغم من نفسه تقريباً، واحداً من أكثر فناني السينما الفرنسية تمثيلاً وحضوراً في السنوات الـ65 الماضية.

نظرة سريعة على مسيرته السينمائية الهائلة، التي تتضمن 150 عنواناً وأعمالاً مع مخرجين مثل إريك رومير وكوستا غافراس ومايكل هانيكه وكلود شابرول وبرناردو بيرتولوتشي وإيتوري سكولا وفرانسوا تروفو وكريستوف كيشلوفسكي، من بين آخرين كثيرين. نظرة تبيّن أهمية ترينتينيان التي لا تنحصر في نطاق السينما الفرنسية فحسب، وإنما تمتد إلى السينما الأوروبية ككل، في وقتٍ كانت فيه الإنتاجات المشتركة الرئيسية هي النظام السائد والشائع.

عرف ترينتينيان كيف يستخدم لصالحه الخجل الوبيل الذي اعترف برغبته في التخلّص منه عندما بدأ مسيرته التمثيلية المسرحية، ليخلق في السينما شخصية تناسبه، سيقدّم لها العديد من الاختلافات والتنويعات، بشغفٍ مروَّض ومقاربة حثيثة ونظرة ميلانكولية وقدرة مثمرة على الارتجال، بحيث في الأخير يستوي ممثلاً مرناً وطيّعاً يتلبّس شخصياته كأنها مكتوبة له منذ البداية، حتى أكثرها شرّاً ونذالة. "أن تكون صفحة فارغة، لتبدأ من لا شيء، من الصمت. لذلك، لا يحتاج المرء إلى إحداث الكثير من الضجيج حتى يُسمع"، كتب ذات مرة عن أسلوبه الخاص في التمثيل، والذي تنكّر للحظات الجرأة التي تمتّع بها بعض معاصريه، مثل فيتوريو غاسمان، الذين شاركه بطولة الفيلم الكلاسيكي "التجاوز" (1962) حيث عرف المخرج الإيطالي دينو ريزي كيفية إبراز أكثر ما يميّز شخصيتي بطلي فيلمه.

تلك الكوميديا ​​اللاذعة الحسّاسة، والتي أصبحت في النهاية مأسوية بشكل واضح وبسيط، كان واحداً من أعظم نجاحات ترينتينيان الدولية، لكنه لم يكن الأول. ففي العام 1956 كان الشريك الرومانسي - ليس فقط في الخيال السينمائي - لبريجيت باردو في الفيلم الذي من شأنه أن يقذف أيقونة الجنس الفرنسية إلى شهرتها الزائلة ولكن المتوهجة، "وخلق الله المرأة" من إخراج روجيه فاديم. تلك الرومانسية مع باردو منحته سمعة واهتماماً إعلاميين مضرّين كان يفضّل تجنّبهما، حتى اُستدعي ضد إرادته لتأدية خدمته العسكرية والانضمام إلى الجيش الفرنسي في الجزائر، وكان من أشدّ المؤيدين لاستقلال البلد العربي المحتلّ.

قام بتسميم نفسه عن عمد بالنبيذ وبياض البيض لتجنّب التجنيد الإجباري، وانتهى به الأمر في المستشفى وأُرسل إلى مفرزة في ألمانيا، حيث انتقم الضباط من موقفه الذي اعتبروه خيانة لبلده. جعلته تلك الأشهر في سلك الجندية أكثر التزاماً بالقضايا المناهضة للفاشية والسينما التي تمثّل تلك الأفكار، أولاً مع فيلم "صيف عنيف" (1959ـ فاليريو زورليني) و"معركة في الجزيرة" (1962، آلان كافالييه)، ثم مع أحد أكثر أفلامه تذكّراً وبقاءً، "زد" (1969، كوستا غافراس)، حول فترة السنوات السبع من الحكم العسكري في اليونان المعروفة باسم "ديكتاتورية العقداء"، والذي توّج عنه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي لتصويره لقاضي التحقيق النزيه المصمم على تسليط الضوء على جريمة قتل سياسية مشينة بحق أحد النواب المناهضين لقوى اليمين.

قبل ذلك بثلاث سنوات، في العام 1966 ، تذوق ترينتينيان بالفعل حلاوة مهرجان كان عندما فاز فيلم "رجل وامرأة" (من إخراج كلود ليلوش)، الذي لعب دور البطولة فيه جنباً إلى جانب آنوك إيميه، بالسعفة الذهبية. كانت الدراما الرومانسية التي لعب فيها دور أب أعزب يقع في حبّ امرأة عزباء، بداية نجاح جماهيري دولي جنوني، حوّل الموتيفة الموسيقية المهيّمنة التي ألفّها فرانسيس لاي إلى نجاح ساحق، والفيلم إلى مؤثر أساسي على كامل السينما التجارية في ذلك الوقت، بحيث لم تستطع تلك السينما القيام بدورها الترفيهي منذ ذلك الحين من دون سيارات رياضية تنزلق على الرمال على حافة البحر، مصحوبة بإيقاع موسيقى جذّابة للأذن.

ما أصبح معروفاً في ذلك الوقت هو أن هذا الرجل، شديد البخل والغموض، غيور جداً على خصوصيته - وهو شيء سيحافظ عليه ترينتينيان حتى آخر حياته - كان أيضاً من عشاق سيارات السباق، لدرجة أنه بعد ذلك بسنوات كان يتنافس في سباقات "لو مان 24 ساعة"، متأثراً بعمّه الذي فاز بجوائز في سباقات لومان للسيارات. طمح ترينتينيان في الأصل إلى مهنة في رياضة سباقات السيارات، ووجد ضالته في السينما وسياراتها ومغازلة المنحدرات وقصص الحب الصيفية، لكنه لم ينس أبداً حلمه الأول، فشارك الممثل في سباقات السيارات في الدوري الأعلى ثم شارك في المسار الصحراوي لسباقات الموتوكروس الكبيرة في الثمانينيات.

على عكس بول نيومان المبتسم، وهو ممثل آخر أحبّ السيارات والسرعة، هناك شيء مظلم ومبهم في ترينتينيان دفعه دائماً إلى اختيار شخصيات غير متعاطفة وغامضة وكئيبة. هذه هي حالة اثنين من أفضل وأشهر أفلامه: الفيلم الاستثنائي "ليلتي عند مود" (1969، إريك رومير) ("هذا المسيحي المزيّف كان مزعجاً للغاية!" اعترف ذات مرة)، والفيلم الذي لا يقلّ روعة "الممتثل" (1970، برناردو بيرتولوتشي)، حيث لعب ترينتينيان دور قاتل حربائي شرير في خدمة "الدوتشي" الكبير الذي لا يقلّ إجراماً. مع المخرج ميشيل ديفيل، كان منحرفاً في كل من "الحَمَل الغاضب" (1974)، وفي تكييفه السينمائي لرواية باتريشيا هايسميث "مياة عميقة" في فيلمٍ حمل العنوان ذاته. في الفيلم البوليسي "قصة شرطي" (1975، جاك دراي)، إلى جانب آلان ديلون، لعب دور رجل العصابات إميل بويسون، وفي "الشرفة" (1980، إيتوري سكولا)، إلى جانب عمالقة التمثيل الإيطالي آنذاك، جسّد شخصية كاتب سيناريو مكتئب قام بتشويه إصبعه بمبراة قلم كهربائية. حتى في الكوميديا ​​البوليسية "الأحد أخيراً" (1983)، تغريدة البجعة الأخيرة لفرانسوا تروفو، لا يظهر ترينتينيان ضمن الشخصيات المضحكة، وتعوّض شريكته في البطولة فاني آردان هذه الفجوة. أو كما يقول الناقد الفرنسي جان لوك دوان، "عندما يبتسم ترينتينيان، فإنه دائماً ما يملك شيئاً من هيئة "آكلي اللحوم".

في التسعينيات، صوّر القليل من الأفلام وعاد إلى المسرح، شغفه الأول. في ذلك العقد، برز في فيلمين: "ثلاثة ألوان: أحمر" (1994، كريستوف كيشلوفسكي)، حيث لعب دور قاضٍ متقاعد ملتوٍ، و"أولئك الذين يحبونني سيأخذون القطار" (1998، باتريس شيروه)، حيث لعب دورين، الأول برجوازي ريفي يستقبل أصدقاء شقيقه المتوفّى، والثاني المتوفى نفسه، وهو فنان مثلي الجنس.

ومع دخول الألفية الجديدة، اختفى تقريباً من الشاشات. "أبلغ من العمر 70 عاماً، لقد تعبت. أنا أغلق العمل وحياتي لا معنى لها"، أوضح ذلك الحين، حتى قبل أن يعلم بالميتة العنيفة لابنته ماري في العام 2003 -  متأثرة بضرب مبرح من صديقها الموسيقي برتران كانتا -  وهو حدث ربما لم يتجاوزه ترينتينيان قط وأورثه تأثيراً مدمّراً. حتى جاء العام 2012 وأقنعه النمساوي مايكل هانيكه بالعودة أمام الكاميرا لتصوير فيلمه "حبّ"، الرهيب من نواحٍ كثيرة، والمحمّل بكراهية البشر بما يقدّمه من تصوير قاسٍ للشيخوخة والموت والحب، والذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان، وهي جائزة قرر المخرج مشاركتها على خشبة المسرح مع ترينتينيان وزميلته إيمانويل ريفا. سبب قبول الممثل العجوز بالدور حينها اختصره بقوله "إنه مثير للاهتمام: هناك العديد من الأفلام عن الشباب، ولكن نادراً ما تنجح عن كبار السن. ثم هذه البساطة، غير العاطفية بالمرة. لا تصبح أبداً مثيرة للشفقة بالرغم من القصة الرهيبة التي ترويها".

بعد خمس سنوات، استدعاه هانيكه مرة أخرى لفيلمه الأخير "نهاية سعيدة"، حيث لعب دور البطريرك البغيض لعائلة برجوازية في كاليه شمالي فرنسا، أصحاب شركة بناء في حالة تدهور، تعمل كمرآة لتداعي وانهيار الغرب وأوروبا. وفي العام 2019، عن عمر يناهز 88 عاماً، عاد للسير على السجادة الحمراء لمهرجان كان السينمائي مع آنوك إيميه وكلود ليلوش في العرض الأول لفيلم "أجمل سنوات العمر"، في لقاء لمّ الشمل بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على ظهور ثنائي "رجل وامرأة". يوم الجمعة الماضي، أعلنت زوجته ماريان هوبفنر ترينتينيان في بيان صحافي أنه "توفّي بسلام صباح اليوم جرّاء تقدّمه في السنّ في منزله في (منطقة) غار (جنوب فرنسا)، محاطاً بعائلته".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها