الجمعة 2022/06/17

آخر تحديث: 14:08 (بيروت)

من الملك توت إلى آندي وارهول... لماذا رُسمت الزهور؟

الجمعة 2022/06/17
increase حجم الخط decrease
يتذكّر الناس الزهور، عادة، قبل أيام قليلة من عيد الحب. يُعبّر البعض، ولا نقول الجميع، عن حبهم من خلال تقديم الزهور للطرف الآخر. من ناحية أخرى، يبدو وكأن هناك "إزدهاراً" للوحات الزهور بين الفنانين المعاصرين، وذلك بعدما جرى النظر إلى هذا النوع الفني، خلال فترة طويلة، على اعتباره ثانوياً. أوكل به "فنانو الويك إند"، أي أولئك الذين يمارسون الرسم بشكل غير احترافي، خلال عطلة نهاية الأسبوع. هذا، في حين أن للزهور تاريخاً أسطورياً، اختلط فيه الديني مع الرمزي والإجتماعي، وحتى السياسي في بعض الأحيان.

لا بد أن نتساءل، بداية، عمّا يدفع الفنّان إلى رسم باقة زهور؟ ليس هناك من إجابة جاهزة على هذا السؤال. قد تكون هذه الإجابة حاضرة في العمل الفني نفسه، وكأن الزهور هنا هي جزء من حقيقة واقعة يصعب التعبير عنها، إذ لا ينبغي أن ننسى أن نتاجات الفن التصويري "تتكلّم"، وليس علينا سوى سماعها. إنها موجّهة لجمهور متنوع، لكنها تعكس، في الأساس، شعور إنسان واحد: الفنان. هكذا قد تكون الزهور تجسيداً لعملية تبادل رمزي وشعوري بين الفنان والجمهور. ليس من المستغرب أن يرسم بعض الفنانين زهرة وحيدة أحياناً، أو زهوراً عديدة غالباً، بحسب المقصد الماورائي. لقد اقترن حضور الزهور، كما ذكرنا بداية، بإشاراتها الرمزية إلى الحب، وربما إلى البراءة والعفوية أيضاً، إذ لا تحتاج الزهرة إلى تجميل، طالما أنها إرتبطت في الأذهان بمفهوم الجمال نفسه، على ما يكتنف هذا المفهوم من غموض وتعقيد.

حول الميثولوجيا
في الأساطير المصرية القديمة، كانت زهرة اللوتس ترمز إلى الشمس، وارتبطت بقوّة بمفهوم الخلق والبعث. غالبًا ما كان يُستخدم شكل لوتس مبسّط ومنمّق لتزيين الأشياء الفنية، بما في ذلك لوحات البردي والتمائم والسيراميك. إضافة إلى الرسوم الزخرفية، استخدم المصريون، أيضًا، الزهور كوسيط فني. في مقبرة الملك توت عنخ آمون، على سبيل المثال، عُثر على أطواق متعددة من الكتان المصبوغ والزهور المقطوفة، بما في ذلك عباد الشمس وزهور الذرة والخشخاش واللوتس الأزرق، بين العديد من الحلي والكنوز.

أما في ما يتعلق بدوّار (أو عبّاد) الشمس، فثمة أسطورة يونانية تفيد أن Clytia، (سوف نضطر إلى ذكر العديد من الأسماء بالحرف اللاتيني لصعوبة ترجمتها إلى العربية، ما قد يحرّف الإسم) التي كانت مولعة بإله الشمس أبولو، كانت ترفع عينيها يومياً إلى السماء، كي ترى عربة النار التي تضيء وتطفىء ضوء النهار. لكن أبولو انصرف عنها إلى Leucothoe، ابنة الملك البابلي Orchamos. هذا الأمر دفع العاشقة مكسورة الخاطر إلى إفشاء السر للملك حول ارتباط ابنته بإله الشمس، وعندها عمد الوالد إلى دفن ابنته حية لشدّة غضبه. منذ ذلك الحين، وقعت Clytia فريسة الخجل واليأس، فصارت تقضي أوقاتها في متابعة مسيرة عربة المعشوق التي تجتاز السماء، لتتحوّل شيئاً فشيئاً إلى زهرة دوّار الشمس.

باقة الزهور الأولى
لا نعلم من هو الفنّان الأول الذي صنع لوحة تتضمّن باقة زهور في إناء. قد يكون أحد أعضاء عائلة Brueghel، وهي العائلة الهولندية التي أنبتت فنانين عديدين ومنهم Jan Brueghel L'ancien (1568- 1625)، المسمى أيضاً بالفنان المخملي، والذي هو صاحب "الباقة" (1603). هذا الرجل الذي أوجد بيئة عائلية تعج بالحياة، وتهتم بالفن وبمتفرعاته، أطلقت عليه صفة قد تدل على الخبرة والمهارة: Brueghel L'Ancien، الريفي والمضحك، الذي عرف نجاحاً حقيقياً في زمنه. من خلال أعماله الأخرى، ذات الطابع البانورامي، والمنظور المرتفع من حيث أفقه، خرج الفنان عن التقاليد التصويرية السائدة، التي لم تهتم يوماً بالواقع المحيط، لتصبح شخصياته عبارة عن إناس بسطاء، فلاحون خلال عملهم، مشاهد لأعراس ومناسبات ريفية، مواسم ومناظر طبيعية، وكذلك باقات زهور جمعها الناس بأنفسهم وقاموا بتنسيقها.

حظيت اللوحات التي تمثل زهوراً بشعبية كبيرة في هولندا، بلد Brueghel. هناك باقات لا حصر لها أنتجها الفنان، الذي كان أحد روّاد هذا النوع التصويري، ومن ثم حذا حذوه رسامون فلامنكيون آخرون، وسرعان ما انتقل هذا التقليد إلى بلدان أوروبية أخرى. في فترات لاحقة أصبح هذا النوع موضع اهتمام فنانين مرموقين، ممن سينتجون باقات زهور مقترنة أحياناً بعناصر أخرى، وستُطلق تسمية "طبيعة صامته" Nature morte على هذا الفرع التشكيلي، الذي ما زال يلقى رواجاً في أيامنا الحاضرة.

إن باقة الزهور التي يعمل الفنان على تأليفها، مع ما تحتويه من عناصر، هي أبعد من تقليد حرفي للمرئي. إذ، بالإضافة إلى المعنى الرمزي للزهور، فهي تمثل عملية تبادل عميقة ورمزية، وتآلف حميم ودائم بين كائنين شديدي الإختلاف. تلهم الزهور الفنان من خلال "التباهي" بأشكالها وألوانها، في حين يجهد هذا الأخير من أجل إعادة إنتاجها بحسب الطريقة التي يراها مناسبة. في عملية التبادل هذه "يتعلّم" الفنان الرسم، عبر سعيه للتعادل مع الطبيعة، ولو في شكل محدود. هكذا، تحاول الكفاءة التصويرية، كما يبدو، أن تستجيب لثراء الطبيعة وتنوّعها، في حوار فريد من نوعه.

زهور الإنطباعية وما بعدها
كما أي حياة ساكنة، أو طبيعة صامتة، يمثل "دوّار الشمس" كائناً جامداً. في هذه الحالة، نرى إناءً من الطين يفيض بأزهار عباد الشمس - "شموس الحديقة" ذات البذور الصفراء والمراكز الوسطية البنية اللون. هذا ما نعتقده للوهلة الأولى، لكن دوّار الشمس، في الحقيقة، هو تجسيد نباتي للإنسان. لقد قام الرسام بالفعل بتأليف باقة من الزهور في جميع مراحل تطورها: من ظهور البراعم، مروراً بتفتح الزهرة، وصولاً إلى مرحلة اليباس. كأننا، هنا، نشهد عملية استعارة دقيقة لمرور الوقت، منذ مرحلة الولادة إلى الموت. وبالمثل، ألا تدفعنا رؤوس عباد الشمس ، بتلاتها الملتفًة، إلى التفكير بالرؤوس ذات الشعر الأشعث.

لقد أصبحت زهريات الورود من الموضوعات المألوفة لدى الرسامين الانطباعيين، وما بعد الإنطباعيين، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. من مونيه وغوغان وفان غوغ، وصولاً إلى سيزان (تم ذكر سيزان في نهاية السلسلة لكونه عاش أكثر من الباقين، باستثناء مونيه "المعمّر"). في عمله الشهير:"زهور في إناء" (1885- 1888)، أولى سيزان عملية التأليف إهتماماً مركزياً. اختار التوتر من خلال عدم التماثل - التناظر المتقلّب كأساس لهذا العمل، كما لأعمال أخرى. وإذ كان يمتلك إحساسًا حاداً تجاه الفنون الأخرى، ويمتلك ناصية التقنية، كان يدرك قيمة التوتر في الفن؛ لكنه، في العادة، سعى إلى تحقيق توازن دقيق بين التوتر والانسجام. كان سيزان على علم بالتوازن في الموسيقى أيضاً، الأمر الذي أثار اهتمامه، كما كان مواظباً في إطلاعه على إتجاهات عصره الفنية، منذ ستينيات القرن التاسع عشر، وعلى تطوير أساليبه الفنية، التي شكّلت أساساً لمن سيسير على خطاه. لقد كان سيزان بحق "أبو الفن الحديث"، وهي الصفة المتفق عليها من قبل الجميع.

أما فان غوغ، الذي كان أشهر من تطرّق إلى موضوع دوّار الشمس، فإن النتيجة التصويرية لأعماله المندرجة تحت هذا البند التشكيلي، تدفعنا إلى التساؤل عن إختلاف النتيجة العملية عن المعطى الطبيعي، في إنسجامه اللوني القليل التعاكس contrast. يمكن تفسير هذه المسألة إستناداً إلى شغف الفنان بالمطبوعات اليابانية، ما جعل لوحته مختبراً لألوان قوية، كانت ميّزت نتاجه على طول الخط. لكن ولعه بالفن الياباني ليس هو التفسير الوحيد: هناك عامل طبي يختفي وراء السبب الرئيسي، قد يجهله البعض. إذ عانى الفنان من مرض الصرع، وأوصى صديقه الدكتور غاشيه بمعالجته من طريق امتصاص الديجيتال (نوع من النبات، ويسمّى أيضاً قفازات الراعي). لكن هذا النبات ذو آثار جانبية تتمثل في ظهور رؤية ملونة باللون الأصفر (كما هو الحال من خلال نظارات التزلج). هذا التغيير في الرؤية انتقل إلى أعمال الفنان، التي مجّدت الأصفر، وذلك بالتوازي مع الفشل الذاتي في رؤية الحياة بألوانها الوردية...

لم ينتظر فان غوغ الإقامة في الريف كي يرسم دوّار الشمس. عمله الذي يمثل أربع نباتات من هذا الصنف يعود إلى العام 1887، وقد جاءت فيه النباتات الأربع مقطوعة ويابسة. أمّا في العام 1888، حين سكن مدينة آرل، جنوبي فرنسا، فقد نفذ لوحة مع 12 نبتة في إناء، بحسب وصفه، علماً أننا نرى 14 و15 نبتة فيها. لكن، احتراماً لمشيئة الفنان وأوصافه، قد يكون من المناسب إتباع العناوين التي أطلقها على أعماله. أما مجمل أعماله الدائرة حول الموضوع نفسه، فعددها سبعة، نفذها بين العامين 1888 و1889، وقد أتلف أحدها في القصف، العام 1945، في نهاية الحرب العالمية الثانية.

لم تنتهِ قصة دوّار الشمس مع فان غوغ، إذ قام غوستاف كليمت بملء رسومه بالكامل بزهور هذه النبتة. ثم قدّم رائد فن البوب آندي وارهول سلسلته "زهور"، العام 1964، ممارساً "هوايته المفضّلة" في انتقاد المجتمع الأميركي ونزعته الإستهلاكية. أمّا في العام 1996، فقد وقع أنسلم كيفر (مواليد 1945) في حب دوّار الشمس، وجاء نتاجه بلون أسود، وله وظيفة محددة لدى الفنان. فقد سعى كيفر إلى تجسيد فلسفة روبرت فلود، العالم الإنساني والطبيب والمنجم الإنكليزي خلال عصر النهضة، الذي شاء البحث عن مراسلات بين الكواكب وجسم الإنسان. اعتقد فلود أن كل نبات في الكون له نجمه بالمقابل في السماء، مما يؤدي إلى إقامة صلة بين عالم الأرض المجهري وعالم الكون الكبير اللانهائي.
في العام 2011، تمت دعوة كيفر للعرض في متحف Rijksmuseum في أمستردام، فاختار تثبيت عمل يمثل نباتات دوّار شمس عملاقة مصنوعة من مادة الـresine على أرضية متصدعة أمام عمل رامبرانت Night Watch - 1642 لترتفع سيقانها على صدى المقاتلين في لوحة رامبرانت، وفي الوسط وضع كرسي حديقة تكريماً لفان غوغ، كما يقول.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها