الأربعاء 2022/06/15

آخر تحديث: 12:00 (بيروت)

"كوستا برافا"مونيا عقل.. يوتوبيا لبنانية يقتلها الفساد والنفايات

الأربعاء 2022/06/15
increase حجم الخط decrease
ربما لا يمكن تفسير القرن الحادي والعشرين إلا من خلال صورة مكبّ النفايات، بالنظر إلى الانجراف البيئي والسياسي المزعج الذي نجد أنفسنا فيه. لكن هذه المساحة التي تنتهي إليها نفاياتنا، الحاوية لما نعتقد أننا تركناه وما لا يلزمنا، تعمل أيضاً كمرآة شفّافة تعكس أخطر سمات مجتمعاتنا، وفي "كوستا برافا"(*)، تحاول مونيا عقل (1989) نشر جميع الإمكانات المجازية لهذا المكان سيئ السمعة لبنانياً، بعدما قاربته قبل خمس سنوات في فيلمها القصير "الغواصة".


نيّتها الواضحة هي التنديد بالحالة الفاسدة لبلدٍ لا يسعها إلا أن تحبّه، بالرغم من الفساد والتناقضات التي يجد سكانه أنفسهم في خضمها. ولإنجاز ذلك، تقوم بتظهير أزمة عائلية تتسرّب عبر الشاشة، مثل كيس قمامة سيئ الإغلاق، بعد فترة وجيزة من قيام الدولة بتوضيب مكبّ نفايات (يعطي الفيلم عنوانه) خلف المنزل الريفي المثالي للعائلة الطامحة لعيش يوتوبياها الفاضلة في الجبال اللبنانية بعيداً من بيروت ومجاريرها.

الموضوع ليس جديداً، فقد تناولت السينما في مناسبات عديدة مسألة مخاطر العزلة نتيجة كراهية أو ازدراء - إن لم يكن مشروعاً، فعلى الأقل يبقى مفهوماً - العالم. تتشابه الفكرة دائماً، ففي مواجهة عسف المجتمع الفاسد، يحاول الأبطال خلق وإيجاد مجتمع بديل جديد يتغلّب على تلك العيوب. رأينا هذا في "هانا وأخواتها" (1986، وودي آلن)، مع ماكس فون سيدو في شخصية فنان انعزالي يعتبر العالم مكاناً قذراً وكريهاً ويستبدّ على حبيبته الصغيرة حتى لا يطاولها "التلوث". في "الشاطئ" (2000، داني بويل)، يبحث ليوناردو دي كابريو عن الجنة في تايلاند، لينتهي إلى اختبار جحيم غير متوقع. في "القرية" (2004، م. نايت شيامالان)، يبحث ليبراليو الطبقة العليا عن طرق لفصل أنفسهم عن كائنات أقل ذكاءً وصقلًا مما هم عليه. وفي "كابتن فانتاستيك" (2016، مات روس)، يحاول أبّ لستة أبناء تكريس حياته لتنشئتهم في الغابة، ولكنه يُرغَم على ترك منظومته تلك وخَوض العالم الخارجي، ليواجه تحديات تخص فكرته عن معنى الأبوّة، خاصة بعد وفاة زوجته ومحاولة والدها الحصول على حضانة اﻷبناء.

لكن الشخصية الأقرب لبطل "كوستا برافا" هي بالتأكيد الطبيب الذي جسّده هاريسون فورد في "ساحل البعوض" (1986، بيتر وير)، وهو الرجل الذي جرّ عائلته إلى وسط الغابة حتى لا يفسدها المجتمع الاستهلاكي الغربي. القصة ذاتها يرويها اليوناني يورغوس لانثيموس بمزيد من الإتقان والوحشية في "سنّ الكلب" (2009)، وهو استعارة متطرفة عن العائلة كشكل من أشكال السجن. في الحالة اللبنانية، يقوم وليد (الفلسطيني صالح بكري) بعزل عائلته في منزل ريفي، مكتئباً وغاضباً من الشرور التي لا تنتهي لهذا البلد المقطوع منه الأمل. إلى جواره، زوجته (نادين لبكي)، ووالدته وابنتيه، الذين يشهدون تصدّع الأسرة وانفجار فقاعتهم في حالة من الذهول. الاستنتاج في كل هذه الأفلام ليس فقط أنّ الجنة المفترضة غير موجودة، وإنما أيضاً أنّه من المستحيل في النهاية فصل المرء تماماً عن العالم القاسي الذي سيظهر أمامه عاجلاً أم آجلاً. في "كوستا برافا"، يتجسّد الكابوس على شكل جرّافات عندما تصادر الحكومة الأراضي المجاورة لمنزل الأسرة لبناء مكب نفايات بيئي مفترَض. في بلد مثل لبنان، يبدو هذا الكلام الرسمي فارغاً ويبقى عاطلاً عن التحقّق الفعلي.


ما نراه هو كيف أن وليد المسكين يزداد يأساً كل يوم لأنه في لبنان لا يمكن حتى الاختباء في أبعد زاوية، وأنه كلما زادت التأثيرات السلبية الخارجية انفرط عقد الأسرة المترابط وزادت صراعاتها. في بعض الأفلام المذكورة هناك القليل من الرحمة مع هؤلاء الأبطال اليوتوبيين، أما هنا فالبطل رجل صالح حطّ من قدر نفسه بعدما فشل مسعاه الانعزالي في الإبقاء على وحدة وترابط أسرته الصغيرة. زوجته، القادمة من ماضٍ "ثوري" وأغنيات في ميادين التظاهر، لم تعد تحتمل العيش "بعيداً من الناس"، وبالنسبة إليها مكبّ النفايات هو لقاء مع العالم الخارجي يذكّرها بالمرأة التي كانت والتي تفتقدها اليوم. والابنة الكبرى، أثناء اكتشافها مراهقتها وصحوتها الجنسية، تقع في غرام الشاب الوسيم، ممثل الدولة اللبنانية المُغيرة على جنّة عائلة البدري. فيما الابنة الصغرى (التي وُلدت ونشأت في المنزل الجبلي) تأخذ صفّ أبيها وتتحايل على شرور العالم الخارجي ونوبات قلقها بعدّ الأرقام. أما أمّ وليد فليست لها وظيفة درامية سوى إفراز الضحكات في كل مشاهدها تقريباً، وتذكير المشاهدين بإلحاح وخطورة النفايات عبر ارتدائها قناع الأوكسجين.

يستغرق الفيلم نصفه الأول لتقديم دوافع ورغبات الشخصيات وتأسيس ومطّ بعض الاستعارات عن الفساد في لبنان، بينما يلتحف النصف الثاني بشيء من الواقعية السحرية ليلملم كل التوتر العائلي الناتج، بدقة أقل من المقاطع الافتتاحية، كما لو كان في عجلة من أمره لتسريع ذروته الختامية التي، من ناحية أخرى، لا تقدّم الكثير من المفاجآت أو الإجابات. المشكلة الأكبر تتمثّل في افتعال بعض تفاصيل السيناريو الذي يبدو أحياناً مترجماً وتعوزه الأصالة (شاركت الكاتبة والمخرجة الكتالونية كلارا روكيت في كتابة الفيلم)، والإصرار على المباشرة المجانية من باب أن الفيلم لا يخشى تسمية الأشياء بأسمائها، فضلاً عن صعوبة بلع قاموس ومنطق وخطاب الزوجين في التعامل مع الآخرين، بصفتهما ثوريين "هارد كور" يناضلان للإبقاء على واحتهما المقاومة للرأسمالية العالمية المفترسة.

أياً يكن، فالعرض الذي حضرته في القاهرة كان كامل العدد تقريباً، بسبب نادين لبكي على الأرجح، وهذا الفيلم، بخليطه الرائج ومنطقه التبسيطي ونبرته التوفيقية وطنانية حواراته وخطابه الأقرب لمنظمات المجتمع المدني، لا يبتعد كثيراً من أفلام الممثلة والمخرجة اللبنانية الأشهر حالياً.

(*) عُرض مؤخراً في القاهرة ضمن فعاليات "أيام القاهرة السينمائية"، ويبدأ عرضه تجارياً من 15 حزيران/يونيو. اختير لتمثيل لبنان في منافسات جائزة أوسكار لأفضل فيلم دولي للعام 2022.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها