الأحد 2022/06/12

آخر تحديث: 07:50 (بيروت)

حرب أوكرانيا وسذاجة الإعلام الغربيّ

الأحد 2022/06/12
حرب أوكرانيا وسذاجة الإعلام الغربيّ
المطران هيلاريون
increase حجم الخط decrease
إبّان الأسبوع المنصرم، حفلت وسائل الإعلام في أوروبّا الوسطى والغربيّة بخبر «إقالة» المطران هيلاريون ألفاييف، أسقف فولوكولامسك، من منصب رئيس دائرة العلاقات الخارجيّة في الكنيسة الروسيّة، وتعيينه مدبّراً لأبرشيّة بودابست. حتّى قبل أيّام قليلة، كان ألفاييف يُعتبر الرجل الثاني في الكنيسة الروسيّة. وكان يقبض لا على ملفّات العلاقات الخارجيّة فيها فحسب، بل يترأّس أيضاً مدرسة طلبة الدكتوراه في اللاهوت التابعة لبطريركيّة موسكو والمعروفة بإسم «أسبيرانتورا»، فضلاً عن كونه عضواً دائماً في المجمع المقدّس. والجدير بالذكر أنّ قرار نقل المطران ألفاييف إلى أبرشيّة أخرى يخالف القوانين الكنسيّة القديمة، ولا سيّما القانون الخامس عشر من المجمع المسكونيّ الأوّل المنعقد في نيقية (إزنيك في تركيا الحالية).


اعترت وسائل الإعلام الغربيّة المهتمّة بالشأنين السياسيّ والكنسيّ حالة من الحيرة. فنحن، هنا، أمام المعضلة التقليديّة في التعاطي مع الأمور والمتمثّلة بكيفيّة الخلوص من الحدث إلى تأويل الحدث. المعروف عن المطران هيلاريون أنّه كان اليد اليمنى للبطريرك كيريل حتّى ما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وقد آثر تعليق منصبه كأستاذ زائر في جامعة فريبورغ السويسريّة على إعلان إدانته للغزو الروسيّ. فكيف السبيل إلى تفسير قرار عزله المفاجئ؟ انصرفت وسائل الإعلام الغربيّة إلى تأويلات من كلّ حدب وصوب. فاستنجدت ببعض اللاهوتيّين الكاثوليك والبروتستانت الذين يعرفون هيلاريون عن كثب ويعتبرون أنّه، في العمق، شخصيّة متّزنة وتتّصف بالاعتدال. وقد أفضت مثل هذه الشهادات إلى نظريّة اعتباره ضحيّةً لمواقفه «المنتقدة» لسلوك الرئيس بوتين وحليفه البطريرك كيريل، وأنّه دفع، في نهاية المطاف، ثمن عدم موافقته على الحرب في أوكرانيا.

لعلّنا، هنا، أمام مثال فاضح عن سذاجة بعض العقول في الإعلام الغربيّ، وذلك من باب جنوحها إلى اختراع نظريّة لا تستند إلا إلى الفراغ وتصديقها. فالثابت أنّه لم يصدر عن المطران المخلوع عن عرش إدارة شؤون العلاقات الخارجيّة في كنيسته، حتّى اليوم، أيّ كلام يوحي بأنّه ربّما يتمايز في موقفه عن الموقف الرسميّ للكنيسة الروسيّة المؤيّد لغزو أوكرانيا. وتتناسى هذه العقول أنّ المطران هيلاريون كان أبرز المروّجين لنظريّة الفساد الأخلاقيّ في الغرب المتمثّل، في رأيه، بمباركة المثليّة الجنسيّة وحيازة النساء في كنائس حركة الإصلاح على رتبتي الكهنوت والأسقفيّة. وقد أفصح، في عشرات النصوص المكتوبة، عن أزمته مع الحداثة الأوروبيّة. ولم يتورّع عن دعوة الكنيسة الكاثوليكيّة إلى الانتظام في حلف مع الكنيسة الروسيّة بغية مواجهة احتمالات العلمنة «الملحدة» والدفاع عن الأخلاق «السويّة».

هيلاريون، إذاً، لا يختلف كثيرًا عن صديقه القديم البطريرك كيريل في تبنّيه مقدّمات الإيديولوجيا الميتافيزيائيّة التي تبرّر الحرب في أوكرانيا، وتقدّم لها الدعامة اللاهوتيّة.


يجدر، بكلّ بساطة، الاعتراف بضبابيّة المشهد على ضفاف الفولغا عوضاً من التهافت المسعور خلف الفرضيّات المثقوبة. فالحقيقة ربّما تكون في مكان آخر، ولا سيّما أنّ المطران هيلاريون كان يُعدّ أبرز المرشّحين لخلافة البطريرك كيريل، وأنّ الجزء الأوكرانيّ من كنيسة موسكو أعلن «استقلاله» قبل حوالى أسبوعين عن الكنيسة الأمّ، وذلك من دون أن تتّضح حتّى اليوم ملابسات هذا القرار وتداعياته. ولكن يكفي أن نسجّل، في هذا الصدد، أنّ عدد الرعايا الأرثوذكس في أوكرانيا يكاد يفوق عدد ذاك الذي في روسيا، ما يحتّم أنّ انفصال كنيسة أوكرانيا النهائيّ عن روسيا، إذا حصل، سيعيد رسم الجغرافيا السياسيّة والكنسيّة للعالم الأرثوذكسيّ برمّته، وذلك بعد توافق كلّ من كنيستي القسطنطينيّة وصربيا على منح كنيسة مقدونيا الشماليّة استقلالها ودعوتهما سائر الكنائس الأرثوذكسيّة إلى الاعتراف بها.

إنّ إقالة المطران هيلاريون في موسكو إنّما هي فصل جديد من فصول إعادة رسم خريطة عالم أرثوذكسيّ يترنّح اليوم بين التشظّي ومباركة الدكتاتوريّات أو السكوت المقيت عنها. والتعاطي معه بمثل هذا الاستسهال ربّما يكون فصلاً جديداً من فصول سذاجة غربيّة لا تني تعيد إنتاج ذاتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها