الجمعة 2022/06/10

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

الموت الرحيم.. هل يحق لنا قتل المعاناة بقتل أنفسنا؟

الجمعة 2022/06/10
الموت الرحيم.. هل يحق لنا قتل المعاناة بقتل أنفسنا؟
تظاهرة صامتة، أمس الخميس، أمام البرلمان البرتغالي ضد إقرار قانون الموت الرحيم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أثناء دراستي الطبية في مدينة شيكاغو، طلب منّي مرة أحد الأصدقاء مرافقته لزيارة والده المريض المقيم في أحد دور الاستشفاء. بعد إصابته بجلطة دماغية منذ سنوات، كان والد صديقي غير قادر على الكلام أو ابتلاع الطعام أو السير على قدميه، يقضي معظم وقته محدّقاً في السقف مستلقياً في فراشه، يتلقّى محلولاً غذائياً من طريق أنبوب معوي. لم أكن متأكداً إذا كان واعياً بوجودنا، أو إذا كان واعياً بأي شيء حوله. كانت حالته مؤلمة، مثيرة للشفقة. كل رجفة في عضلات وجهه كانت توحي بأن والد صديقي يعاني، أن وجوده الإنساني أصبح مجرّداً من الإنسانية. تساءلتُ إذا كان أحد قد أعطاه خيار الخروج من مستنقع عذابه براحة وهدوء. لم أقل شيئاً، لكن صديقي استشفّ تساؤلاتي. أثناء عودتنا، أخبرني أن إدارة المشفى أوصتْ بإيقاف معاناة والده والسماح له بالموت. "لكني لم أستطع اتخاذ قرار كهذا. لا أستطيع"، قال لي صديقي. أتذكر جيداً وجهه المليء بالحيرة والألم.

هل يمكن حقّاً السماح بالموت لبعض المرضى؟ يمكن، لا بل أكثر من هذا، في عالم الطب اليوم، يمكن إهداء الموت المريح المسالم لمن يرغب فيه من المرضى المحكومين بالألم والمعاناة والشفاء المستحيل. في معجم المفردات الطبية، يُسمّى هذا الإهداء بـ"الموت الرحيم" (Euthanasia)، وإذا توخينا دقة أكبر في التوصيف، "القتل الرحيم".

الموت الرحيم هو ثيمة أساسية في كتاب الطبيب والكاتب الهولندي بيرت كيزر "الرقص مع مستر دي"، أي الرقص مع السيد الموت. بيرت كيزر كاتب وطبيب، ولد العام 1947، حاصل على شهادة في الفلسفة قبل أن يكمل دراسته الطبّية. وهو أيضاً كاتب موهوب. عمل كيزر في دار لرعاية المرضى في هولندا 34 عاماً قبل أن يتقاعد ويلتحق بعيادة متخصصة برعاية نهاية الحياة حيث يعمل إلى الآن. في العام 1997، أصدر كيزر "الرقص مع مستر دي" باللغة الهولندية، ثم ترجمه بنفسه إلى الإنكليزية. الكتاب يتحدّث عن حياة كيزر المهنية اليومية في دار الرعاية الهولندية حيث كان الموت الرحيم متوافراً لمَن يطلبه، كان كيزر أحد قادة كتبية أطباء الموت الرحيم. سنعود لاحقاً للحديث أكثر عن هذا الكتاب، لكن ربّما يصلح هنا أن نتكلّم أولاً عن المقصود بالموت الرحيم، أنواعه، والقوانين التي تحكمه.
 

الموت الرحيم بمعناه المعاصر هو ما يقوم به طبيب لإنهاء حياة مريض، بهدف تخليصه من آلام ومعاناة غير محتملة وغير قابلة للشفاء. هناك أكثر من نوع للموت الرحيم بفروق ليست كبيرة، لكن المعنى الأكثر شيوعاً هو "الموت الرحيم الإرادي الإيجابي"، حيث يقوم الطبيب بنفسه (بطلب من المريض) بحقن المريض الواعي بجرعة دوائية مميتة. عادة يكون الدواء من فصيلة الباربيتورات، وهي عبارة عن أدوية مهدّئة مخدرة مثبطة للجهاز العصبي المركزي، تؤدي بجرعات كبيرة خلال دقائق إلى غياب وعي المريض وتوقف تنفسه وأجهزته الحيوية بسلاسة وسلام، من دون أيّة تشنجات أو ألم. النوع الآخر من الموت الرحيم هو "الموت الرحيم الإرادي السلبي". فيه يصف الطبيب أدوية (من فئة الباربيتورت أيضاً) للمريض الراغب في الانتحار. لكن هذه الأدوية يبتلعها المريض بنفسه. الاسم الآخر للموت الرحيم السلبي هو: "الانتحار بمساعدة الطبيب" (Physician Assisted Suicide).

الحديث عن موتٍ على أيدي الأطباء أثار وما زال ردود أفعال عاطفية سلبية. فصورة الطبيب مُأطَّرة في صورة أبدية من المفترض أنه يقف فيها في صراع ضدّ الموت، لا كحليف له. لكن، منذ ظهور مفهوم الموت الرحيم تاريخياً، أي حوالى القرن السادس عشر لدى فرانسيس بيكون، ارتبط بفكرة القضاء على الألم، بالرغبة في التخلّص من المعاناة. ارتبط بفكرة الوصول إلى نهاية مريحة سعيدة مسالمة. الموت الرحيم نشأ من رحم المعاناة غير القابلة للعلاج، من جحيم وجودي لا نهائي لا يمكن التخلّص منه سوى بالموت. وهذا الجحيم ليس رمزياً فقط. كل مَن يعمل في الحقل الطبي يمكنه رؤية الحجيم في عيون المرضى المصابين بسرطانات منتشرة قاتلة، أو بأمراض عصبية مميتة. هناك شروط عديدة يجب أن تتوافر قبل السماح بالموت الرحيم، كأن يكون المرض مستعصياً غير قابل للشفاء، أن يكون واضحاً أن خلف فعل القتل رغبة نبيلة في تخفيف المعاناة، أن يصرّح المريض بوضوح عن رغبته وموافقته على موته وأن يوافق الطبيب على أن الحالة التي يعالجها تستدعي الموت الرحيم.

الاعتراضات على الموت الرحيم كانت دائماً عالية، شرسة. يمكن للمرء أن يفهمها، كما يمكن أن يفهم من يدافعون عن حق الإنسان في الموت. هل لدينا حقّ كهذا؟ الأمر متعلق بمنظومة الاعتقاد الشخصية. فمعظم الاعتراضات كانت وما زالت تأتي من أرضية دينية، تلك التي ترى أن الحق في الحياة الممنوح من الله، لا يمكن التعدّي عليه من قبل الإنسان.

لكن مع تراجع السلطات السياسية الدينية، ونضوج مفهوم الحريّات الفردية، منذ عصر الأنوار حتى الآن، اكتسب الموت الرحيم قبولا متزايداً معنوياً، وبدرجة أقل قانونياً. الحياة، في الجدال الفكري المعاصر، لم تعد تكتسب قيمتها من مرجعيّتها المقدسة فقط، بل في خلوّها من العذاب والألم واليأس المطلق. اليوم، الموت الرحيم الإيجابي، ذاك الذي ينفذه الطبيب بيديه، قانوني في عدد قليل من الدول (بلجيكا، كندا، هولندا، لوكسمبورغ، كولومبيا، نيوزيلاندا، إسبانيا). الموت الرحيم الإرادي السلبي، أي حينما يبتلع المريض الأدوية بنفسه بوصفة من الطبيب، مسموح في عدد أكبر بكثير من الدول، ومنها الولايات المتحدة (في 11 ولاية فقط).

في "الرقص مع المستر دي"، يكتب كيزر تجربته ككاتب أولاً، وكطبيب بعد ذلك. يستشهد بسقراط وزينون، ويستعيد كافكا وشيلي، ويذكرنا بأفكار أوسكار وايلد وفيتغنشتاين. الكتاب مُتعب، ليس فقط لمحتواه المليء بالأجساد المريضة المحطّمة والأرواح اليائسة المستسلمة لمصيرها، بل أيضاً لأن كيزر ينتقل من حالة مريض إلى أخرى بسرعة وغزارة يصعب اللحاق بها أحياناً. لكن المحتوى الفلسفي والفكري والأدبي والإنساني الذي استطاع كيزر تقديمه يجعل من الكتاب مادة تستحق القراءة.

كيزر الذي أصبح من أشهر الأطباء المدافعين والممارسين للموت الرحيم في العالم، لا يبدو متردّداً وهو يحدّثنا عن الرحمة التي يمكن أن يقدّمها الموت. من زاوية نظره، يرى الموت واجباً على الطبيب تقديمه عندما يصبح الجسد مصدراً لمعاناة غير محتملة. مع ذلك، كما يقول في صفحات الكتاب، مع كل حقنة من الباربيتورات، خلال التحضير لها، وأثناء انتظار الموت بعدها، لم يستطع كيزر بعد سنوات طويلة من الممارسة التخلّص من الخوف. الخوف أن تكون الجرعة قليلة ولا تؤدي إلى الموت، أن لا يذهب الدواء كاملاً في الوريد، أن لا يموت المريض بسلاسة وسلام. الخوف الأعمق بأنه متى انطلق قطار الموت الرحيم، ما من عودة ممكنة إلى الوراء. ثم هناك الخوف الوجودي عند مواجهة مريض يتباطأ تنفسه تدريجياً إلى أن يتوقف كل شيء. أحياناً يمكن أن يأخذ الموضوع بعض الوقت (نصف ساعة مثلاً). انتظار مؤلم طويل في الحقيقة.

يواجه كيزر عالم الطب الذي ينتمي إليه بكمّ كبير من السخرية والكلبية والاحتقار أحياناً. ربّما له بعض الحق في ذلك. فكبير عدد المرضى الذين يتحدّث عنهم في كتابه لأنهم وصلوا إلى حالة جسدية مزرية ميؤوس منها. يسخر كيزر من الطبّ العاجز حتى الآن عن إيقاف الألم والسقوط التدريجي للإنسان المريض في مستنقع الموت البطيء. بالنسبة إلى كيزر، هناك طريق آخر يمكن سلوكه، طريق الموت الرحيم، طريق يراه أكثر رحمة وأكثر إنسانية وأكثر تطابقاً مع الرغبة الدفينة لكثير من البشر المـرضى المـُعذّبين.

يمكن طبعاً الاختلاف والاعتراض على الطريقة التي اختارها كيزر لمواجهة عجزنا الإنساني. لكن عسى الاعتراضات أن تحوي من المنطق والرحمة ما يُعادل رحمة الموت الرحيم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها