الإثنين 2022/05/09

آخر تحديث: 11:28 (بيروت)

"دلشاد" رواية العُمانية بشرى خلفان...سيرة الجوع والشبع

الإثنين 2022/05/09
"دلشاد" رواية العُمانية بشرى خلفان...سيرة الجوع والشبع
بشرى خلفان
increase حجم الخط decrease
رواية "دلشاد" -سيرة الجوع والشبع للكاتبة العمانية بشرى خلفان، الصادرة عن دار "تكوين" في الكويت، تُنافس على جائزة بوكر للرواية العربية هذا العام، بعد صعودها إلى اللائحة القصيرة. وهناك مَن يرشحها لذلك، كونها على سوية بقية أعمال اللائحة القصيرة، لديها نقاط القوة والضعف نفسها. 

من علامات القوة أنها تبتعد عن التشابه في الكتابة الروائية العربية، وتقدّم وترصد فترة تاريخية مهمة في سلطنة عُمان تضعها تحت عنوان سيرة الجوع والشبع. وثمة من يعطي الرواية علامة إضافية، باعتبار أن الكاتبة خليجية، وهذا أمر يمكن حسابه في خانة التمييز الإيجابي، لكنه يخرج عن قاعدة التنافس المجرد من الاعتبارات. أما نقاط الضعف في هذه الرواية، فأبرزها الانسياق خلف إغراءات السرد السهل، حتى وصلت إلى حدود 500 صفحة، ومن قراءة مركزة للرواية يمكن اختصارها إلى النصف من دون أن تتأثر على مستوى الموضوع، بل على العكس، فإن ذلك يخدمها على صعيد متانة البناء الذي يصبح أكثر ترابطاً ورشاقة، ويكون في وسع القارئ إكمالها حتى النهاية، وحتى ترجمتها إلى لغة أخرى.

الرواية مكتوبة بصيغة اللوحات، كل شخصية مكونة من لوحات عديدة، لوحة وراء أخرى، تتكرر بصِيغ مختلفة حسب تطور بناء الشخصية من الصفر إلى الذروة والانحدار، ويفيد ذلك في تتبع مسار الشخصية وتقاطعاتها مع بقية الشخصيات من دون عناء، ويساهم في ذلك أن مصائر الشخصيات تتلاقى وتبتعد، ولكل منها سجله الخاص، الذي يمكن تتبعه حسب سلّم زماني ومكاني واضح.

وتلاحق الرواية فترة من تاريخ سلطنة عمان تعود إلى عهد السلطان تركي بن سعيد، في نهايات القرن التاسع عشر، وما كانت تعيشه تلك البلاد من صراعات، في وقت بدأت فيه العاصمة مسقط بالتشكل في ظروف اقتصادية صعبة، جوع وفقر وأمراض، والشخصية الأساسية "دلشاد" الذي حملت الرواية اسمه، من عالم الهامش حول مسقط، ينتظر وفاة أمه للعيش مع "ما حليمة"، ويتزوج نورية ويصبح بلوشيا(نسبة إلى بلوشستان) مثلهم، لكن حليمة أفسدت عليه حلمه عندما أخبرته بأن نورية أخته في الرضاعة، فهي تولت رعايته بعدما أهملته أمه التي ما لبثت أن رحلت، فانتقل للعيش مع أولاد حليمة: عيسى الحمال، حسين جامع القمامة، ونورية، بينما يقوم هو بتوزيع الحليب على أثرياء مسقط. وكانت حليمة تسميه "خوي البنات" لأنه كان يرافق نورية بصورة دائمة، وتكمن عقدته في أنه ابن عرب لا يمكن له أن يصبح بلوشياً، رغم أنه أضحى بمثابة أحد أولاد ما حليمة التي فقدت بسبب الكوليرا الآتية من الهند، ابنتها نورية وابنها حسين ووالدتها، ما زليخة العمياء، التي أطلقت اسم "دلشاد" على هذا الطفل الفرح الذي يشترك مع الآخرين في أنه لم يتعرّف على والده المشكوك في وجوده، لقيط، على عكس والد أبناء ما حليمة، عبد الرسول، الذي تركها حاملاً بابنتها نورية، وغادر إلى الوطن بلوشستان لأنه "رأى أمه تبكي في الحلم"، وترك عائلته تعيش في خيمة على شاطئ مدينة مسقط التي قدموا إليها في عهد السلطان تركي، وحين بلغت ما حليمة الحول، ذهب والدها إلى الحرب مع السلطان ولم يعد، فاضطرت إلى الزواج من فرج داد الله، أسوة بالأخريات، وهو الذي مات في سريره، بعدما انجبت أمها منه أخاً لها حمل اسم غلام مات في الحرب مع السلطان فيصل نجل السلطان تركي في الباطنة، وأصيبت أمه بالعمى من البكاء عليه. أما هي، ما حليمة، فقد قضت شبابها في الكد وحمل الهم.

مسقط
الكوليرا هي المأساة التي ضربت مسقط وأصابت ما حليمة، التي فقدت أمها وابنتها وابنها، أما ولدها عيسى الذي بقي على قيد الحياة، فكاد يجن، وكذلك الأمر بالنسبة الى ابنها بالرضاعة دلشاد، فقد أصبح جلداً على عظم، لكن هذه المحنة جعلت من حسين ودلشاد أخوة ليس لأنهما بالرضاعة كذلك، بل لأنهما عرفا أن "الدنيا كلبة تغرز أنيابها في قلبك إذا احببتها، وتنهش ظهرك إذا صددت عنها"، وبعد مرور الكارثة، يقف عيسى عبد الرسول على قدميه ويعمل عتالاً في سوق مسقط، وهو هنا يستعيد مسيرة البلوش المتحدّرين من الجبال العالية، ولا يشبههم في البأس والضخامة إلا رجال قبائل البشتون، هؤلاء البلوش عبروا الصحراء والبحر حتى وصلوا إلى مسقط وأصبحوا جنداً في جيوش السلاطين. أما دلشاد فلا يبدو شديداً، ومع ذلك رافق عيسى للعمل في سوق العتالين، وكان يعود بلا مال أو حبة تمر أو فص ملح، وحين يستجوبه عيسى يكتفي بالضحك. وفي سنّه المبكرة، طلب الزواج من نورجيهان بياعة الحلو رغم اعتراض ما حليمة، التي قالت له إنّ أمها لا تزوج ابنتها لابن عرب حتى لا تقول له "بلا أب"، لكنه أصرّ وتزوج الفتاة التي بقيت تعانده لفترة، فحملت منه وماتت لحظة ولادة طفلتها التي حملت اسم مريم، والتي أصبح لديها عدد من الأمهات بالرضاعة، بلوشيات وعربيات، وكبرت في "حارات مسقط التعيسة الخاملة وشبه الخالية"، وعرفت الجوع جيداً وفهمته ولم يواتيها الحظ لتفهم الشبع أبداً. كبرت بعد وفاة جدتها ما حليمة، وصارت تعنى بوالدها وتغني له الأغاني التي ورثتها عن أمهاتها بالرضاعة. وبعدما أصاب والدها الرمد ولم يعد قادراً على الرؤية، عهد بها إلى أسرة من التجار غنية متدينة "بيت لوماه" وتركها هناك، حيث وجدت "سيدة قاسية، وعبدات متواطئات"، فأصبحت خادمة "البيبي الخاصة" لكن الوالد استعاد بصره بعد أخذ دواء التراخوما، وأصابه الندم على تسليم ابنته لذلك البيت وقرر استعادتها، لكنه لم يفلح لأن الباب الذي انفتح من أجل دخولها، بقي موصداً في وجهه رغم أن صار يطرقه كل يوم، وحين تملّكه اليأس هرب من هذا الوضع على متن سفينة متجهة إلى الهند، بعد المرور بصور المدينة التي "تضمها جبال يميل لونها للصفرة أو الحمرة، هي أقل قتامة من جبال مسقط الملعونة التي تكرهها وتحبها ثم لا تجد بدّاً من الفرار منها". وعلى متن السفينة، تقع له مصادفة سعيدة، إذ يصبح خادم الشيخ "مبارك بن عبدالله المخيني" المسافر للعلاج برفقة ابنه ويحتاج الى من يساعده، تاركاً خلفه مريم التي يجهل مصيرها في "بيت لوماه"، إذ صارت خادمة العانس فردوس سيدة البيت الكبير، الذي تشرف عليه ما مويزي، ويراها شقيق فردوس التاجر، وآخر من بقي من ذرية تاجر السلاح سيدي أحمد فضل لوماه، الذي كان الإنكليز يسمونه مهرباً، فنفوه الى مصر وعاد بحماية الفرنسيين والبلجيك، ثم ما لبث أن مات في بندر عباس وابنه عبد اللطيف يدرس العربية والحساب في مدرسة الزواوي، وذلك في وقت كانت فيه مسقط أهم مركز لتجارة السلاح الذي يصل بحماية الفرنسيين، ويهربه التجار البلوش الى أفغانستان لمحاربة الإنكليز، ويصل الهنود للغرض نفسه، وجزء آخر يذهب نحو القبائل العربية في الجزيرة لمحاربة العثمانيين، وآخر للقبائل العمانية في الداخل التي يرتبط السلاح لديها بالرجولة. والمفارقة أن والد عبد اللطيف كوّن ثروة من التعاون مع الثوار، في حين أن عبد اللطيف كون ثروته بالتعاون مع الإنكليز، وسقط قتيلاً بقصف ألماني في الحرب العالمية الثانية بعدما بنى قاعدة خاصة للإنكليز.

المحب للنساء
عبد اللطيف العائد من السفر، المحبّ للنساء والمال والبحر، لا يمنع نفسه من السؤال عمن ترك هذه الطفلة مقابل لا شيء، من أجل أن تسدّ جوعها في وقت كثر فيه العبيد بسبب القحط وحروب السلاطين والقبائل والانكليز الذين كانوا يقيدون تجارة السلاح خوفاً من أن تأكل الثورات مستعمراتهم، يجبرون مسقط على التخلي عن مواردها مقابل القليل يمنحونه من تعويضات، ويتكلمون عن المعاني والمبادئ". ومسقط منهوبة دائماً حسب عبد اللطيف، مرات لصوصها منها وفيها، ومرات من الخارج، ومرات من داخل البلاد، يحاصرونها ويدخلون وينهبون كل شيء في دربهم.

وحين يستفسر من شقيقته عن مريم، تطالبه بتقوى الله، "هذه طفلة" عمرها لا يتجاوز 13 عاماً، وترسلها إلى المطبخ لتساعد الطباخة الأساسية، وتتعلم هناك كل فنون الطبخ والبهارات والحبوب وصناعة الحلوى، وذاقت اللوز والموز والزبيب وشراب الشاي والقرفة والقهوة، وصارت السيدة تقول لها إنها أصبحت فتاة حلوة، ولا تطلب في خدمتها أكثر من دهن جسدها بالزيت ودعكها بقوة حتى تسترخي عضلاتها لتنام مرتاحة. وفيما كان الناس يتضورون جوعاً خارج أسوار هذا البيت، كانت آلام السيدة تعود إلى الشبع، وتفسر الخادمات عدم زواجها بالنصيب، وعدم الرغبة في الرجال، ولم تفهم مريم ذلك إلا حين تحرشت بها فوقعتْ الفتاة بين ست الدار وشقيقها عبد اللطيف اللذين يتنافسان على الفوز بها. لكن الفتاة التي صارتْ امرأة جميلة لا تفهم ذلك، ولا تعرف من الدنيا إلا الحارة الفقيرة التي جاءت منها والجوع والوجع، لكن أحوالها تتغير حين تخبرها ما مويزي، الخادمة والجارية العجوز، أنها مريضة بالعشق الذي يصيب الفتيات المحظوظات فقط، وينتهي بالزواج من عبد اللطيف، الذي يبقى مشغولاً بحال شقيقته حتى يزوجها.

تبدأ الرواية في الرتابة عند الصفحة 200، حين تدخل في التاريخ السياسي لسلطنة عمان بدءاً من السلطان تيمور وعلاقته المتوترة مع الإنكليز وبعدها نجله السلطان سعيد بن تيمور وحروبه مع قبائل الداخل وموقف الإنكليز منه، وتحتل التجارة بين شطي الخليج مساحة أخرى والتي يديرها الهنود بتشجيع من الإنكليز الذين يعاملونهم معاملة الرعايا، وتدخل الرواية في هذه التشابكات وتركز على مواقف التجار العمانيين الذين كان يهمهم ان يستقل السلطان عن الإنكليز... ولا تبدو شخصية دلشاد ذات ثقل خاص حتى يحمل اسم الرواية، بل يمر في العمل بلا لمعة خاصة، ومن بين الشخصيات التي ترسمها الكاتبة بعناية، سنجور جمعة، وهو حكواتي ومدبر أحوال، يقدم النصح ويجد الحلول وعلى قدر من الإلمام والمعرفة، فهو الذي روى قصة مريم بنت عمران حين شاهد حيرة والد مريم (دلشاد)، وراوي قصة النبي يونس والحوت كما وردت في القرآن، وقصة النبي يوسف. هو سجل لحكايات العرب والبلوش.

وهناك ثلاث ملاحظات على الرواية، الأولى أن التاريخ هو الإطار العام لها وهو موضوعها، لكنه يحضر في سياق تطور الحياة في مسقط في نهايات القرن التاسع عشر والحرب العالمية الثانية، ودور الإنكليز في تلك الفترة في تشكّل هذا البلد، وقد تبدو بعض الشخصيات ذات بعد تخييلي غرائبي مثل عبد اللطيف لوماه، الذي كسب ثروة عبر التعاون مع الإنكليز في حين أن والده كوّن ثروته من بيع السلاح للثوار الذين كانوا يحاربون الإنكليز. وفي حقيقة الأمر هذا أمر حصل، ويرويه أشخاص أحياء إلى اليوم، ويسمون أفراد هذه العائلة بالأسماء. والملاحظة الثانية هي إن الانطباع الذي يتكون لدى القارئ هو أن الرواية تريد التحدث عن البلوش والعرب وتقدم سيرة للعلاقة المشتركة، لكن الكاتبة تكتفي بعموميات وبالسرد من دون عمق. أما الملاحظة الثالثة فهي تراجع مستوى الأعمال المُشاركة في مسابقة البوكر، عاماً بعد آخر، وهذا ينطبق على هذه الرواية وغالبية الأعمال التي تصل إلى اللائحة القصيرة في السنوات الأخيرة، وهذا يفسر عزوف الناشرين الأجانب عن ترجمة هذه الأعمال كما كان يحصل في بدايات البوكر العربية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها