الأحد 2022/05/08

آخر تحديث: 08:19 (بيروت)

بين الله والقيصر: سقطات البطريرك كيريل

الأحد 2022/05/08
بين الله والقيصر: سقطات البطريرك كيريل
البطريرك كيريل
increase حجم الخط decrease
يلفت، في هذا الأسبوع، كلام الصحافة الأجنبيّة عن عزم الاتّحاد الأوروبّيّ على فرض حزمة جديدة من العقوبات على مصارف وشخصيّات روسيّة، بمن فيها بطريرك موسكو وكلّ الروسيا كيريل. إذا صحّ الخبر وتمكّنت دول المجموعة الأوروبّيّة من الاتّفاق على تمرير هذه الحزمة الجديدة من العقوبات، وهي السادسة من نوعها، سيكون أحد بطاركة الكنيسة الأرثوذكسيّة، ولأوّل مرّة في التاريخ، في مرمى تدابير غاية في القسوة تفرضها سبع وعشرون دولة.

والمعروف أنّ هذا البطريرك هو على رأس أكبر كنيسة أرثوذكسيّة في العالم، إذ يبلغ عدد مؤمنيها نيّفاً ومئة مليون، وذلك من جرّاء دفاعه المعلن عن الحرب والسعي إلى تبريرها بحجج تتراوح بين اللاهوت والذهنيّة القوميّة والمقترب الثقافيّ المثقوب والمنطق الاستباقيّ. رأس الكنيسة، الذي يُفترض أن يشكّل خطابه مرجعيّةً أخلاقيّة، يصبح عرضةً للعقوبات على يد سلطة مدنيّة عليا بسبب تلكّؤه في تصويب البوصلة الأخلاقيّة، وتورّطه في مباركة لعبة الحرب وما تستتبعه من موت ودمار وتهجير.

كذلك يلفت، هذا الأسبوع، أنّ أسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكيّة البابا فرنسيس كشف مضمون حديث دار في لقاء افتراضيّ جمعه بالبطريرك الروسيّ كيريل يوم السادس عشر من آذار المنصرم دام أربعين دقيقة. وقد نقل فرنسيس أنّ البطريرك الروسيّ تلا على مسامعه، إبّان هذا اللقاء ولمدّة عشرين دقيقة، عدداً من الحجج في تبرير الحرب. وكان جواب الأسقف الرومانيّ أنّه لا يفقه شيئاً من هذه الأمور، وأنّهما (أي البطريرك والبابا) ليسا إكليريكيّين في خدمة الدولة، وأنّهما مدعوّان إلى استخدام لغة يسوع، لا لغة السياسة. وقد علّقت مصادر دائرة العلاقات الخارجيّة في الكنيسة الروسيّة على كلام الحبر الرومانيّ معتبرةً أنّه تخيّر «النبرة الخاطئة» في نقل مضمون كلام البطريرك على الرغم من انقضاء «شهر ونصف الشهر» على حصول الحديث. وأضافت أنّ مثل هذه التصاريح لا يصبّ في قيام حوار بنّاء بين الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة والكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة.

الحقّ أنّ ما دار بين البابا والبطريرك لا يقلّ خطورةً عن خبر احتمال فرض عقوبات على الأخير. تعالوا نحاول قراءة بعض دلالاته. لم تنفِ مصادر الكنيسة الروسيّة صحّة ما دار بين القطبين الكنسيّين وما نقله البابا عن موقف البطريرك، بل اكتفت باستهجان نبرته وتوقيته. ومن ثمّ، اعتبرت أنّ المشكلة ليست في ماهيّة ما قاله كيريل، أي تبرير الحرب بالحجج المعهودة، بل في زمان نقله والطريقة التي نُقل بها. لا يسع أحداً منّا أن ينكر أنّ كيفيّة نقل المعلومات وتوقيت هذا النقل يضطلعان بدور كبير في الأثر الذي يرمي الناقل إلى إحداثه في نفوس المتلقّين. لكن هل يبرّر هذا كلّه، على أهمّيّته، التعامي عن القضيّة الأساسيّة التي سعى أسقف روما إلى تسليط الضوء عليها، أي تورّط نظيره الروسيّ في علاقة مَرضيّة مع السلطة هي، عبر تبريرها الحرب، تناقض، بشكل سافر، إنجيل يسوع، وتوحي بأنّ البطريرك الروسيّ لم يتعلّم شيئاً في هذا الصدد لا من تاريخ كنيسته هو، الملطّخ بالتداخل المشين بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة، ولا من تاريخ الكنائس الأخرى، وعلى رأسها الكنيسة الكاثوليكيّة؟

المصادر الروسيّة العاتبة على بابا روما أشارت أيضاً إلى أنّ سلوكه لا يخدم الشأن الحواريّ بين الكنيستين. ربّما تنطوي هذه الإشارة على شيء من نبرة التهديد بتجميد العمليّة الحواريّة بين الفولغا والتيبر. طبعاً هذه مجرّد فرضيّة برسم تطوّر مسار العلاقة بين الكنيستين في الأشهر المقبلة، ولا سيّما أنّ الحبرين اتّفقا على تأجيل لقاء لهما كان من المزمع أن يُعقد في شهر حزيران/يونيو المقبل. لكنّ الأهمّ يبقى أنّ المصادر الروسيّة، في تعليقها، من الواضح أنّها، مرّة أخرى، تضيع البوصلة، وذلك عبر تغليبها منطق المُؤَسّسة على منطق الإنجيل. فالحوار بين الكنيستين، على أهمّيّته وضرورته، لا يبدو أولويّاً في الراهن. فالسؤال الأهمّ اليوم، والذي يجب التصدّي له بصراحة وجرأة ونزاهة فكريّة مطلقة، هو علاقة الكنيسة الأرثوذكسيّة، والكنائس عموماً، بأهل السياسة، ومدى قدرتها على رسم حدود واضحة بين الله والقيصر، وعلى الانعتاق من ضغط السرديّة الثقافيّة والقوميّة التي تبرّر الحرب.

القضيّة، أيّها السادة، هي أنّ الأوان لم يفت بعد كي تتوب مؤسّستكم الكنسيّة إلى إنجيل يسوع القادر وحده على تحريرها من سقطاتها المريعة. هنا مربط الفرس. وكلّ كلام آخر لكم معرّض أن يتحوّل إلى خطاب مستهلك وفارغ «لا يُسمن ولا يغني عن جوع».
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها