الأربعاء 2022/05/04

آخر تحديث: 10:14 (بيروت)

وَهمُ الإرادة الحرّة... هل نحن مسؤولون عن أفعالنا؟

الأربعاء 2022/05/04
وَهمُ الإرادة الحرّة... هل نحن مسؤولون عن أفعالنا؟
هل يمكن لمـُرتكب الخيانة الزوجية الهروب من قدر الخيانة
increase حجم الخط decrease
لقرون طويلة، التقى الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين والمثقفين وغير المثقفين على الإيمان بمبدأ جامع اُعتبر من الأسس التي ارتكزت عليها العمارة المتطاولة للحضارة الإنسانية: الإنسان يمتلك إرادة حرّة. لذلك اُعتبرتْ أفكارنا وقراراتنا وأفعالنا خيارات شخصية خاضعة لإرادتنا الكاملة الواضحة.


يبدو مبدأ الإرادة الحرّة مفهوماً بسيطاً، منطقياً، حتى أن الجدال الفكري حوله انطفأ لفترة طويلة. لماذا علينا مناقشة البديهي؟ لكن ما اكتسبناه مؤخرّاً من معرفة بفضل الكشوفات العلمية الحديثة يذهب في الاتجاه المضاد، صوب تكسير مفهوم الإرادة البشرية الحرّة. العلم الحديث، وبكل موضوعية وبرودة يريد أن يدوّخنا بهذه الخلاصة الجديدة: لا نمتلك في الحقيقة إرادة حرّة، هذا وهم؛ القرارات التي نتّخذها لا نتحكّم بها وليست ملكنا، بل هي مجرّد نتائج محتّمة لتركيبتنا البيولوجية والفيزيائية والبيئية. لا نملك السيطرة على شيء من رغباتنا وأهوائنا وأفكارنا. أفعالنا في النهاية حلقة أخيرة في سلسلة من الأسباب سابقة لها وخارجة عن إدراكنا.

البراهين العلمية على وهم الإرادة الحرة قوية، لا يمكن القفز فوقها وسنعود إليها لاحقاً. لكن لنتمعّن قليلاً في هذه الخلاصة المربِكة جداً: إذا كانت الإرادة الحرّة وهماً، يتزعزع إلى درجة السقوط العالمُ كما نعرفه ونعيشه، عالمٌ بمنظومة فلسفية متمأسسة على الإيمان بمسؤولية الإنسان الأخلاقية والفكرية والقانونية الكاملة عن أعماله وأفعاله. في هذا العالم القديم، إذا قررتُ السرقة، تقع المسؤولية الكاملة لاتخاذي قرار السرقة ومن ثم تنفيذه عليّ. الآن، أقرّر كتابة مقال، كان يمكن أن أقرّر فعل أي شيء آخر، كالتفرّج على التلفزيون، لكني، أنا، اخترتُ الكتابة. أنا الذي يقرّر كيف أقضي يومي. لكن هذه (الأنا) التي نتحدّث عنها، التي تُقرِّر وتختار، يُمسك بها العلم ويلوّح بها أمامنا ويسألنا: ماذا نقصد بـ (الأنا)؟

نتكلّم على (الأنا) كأنها كائن مستقل عن أجسادنا، تقع خارجها، أو خلفها؛ كأنها تجلس في قمرة قيادة تقود من خلالها قراراتنا ورغباتنا وحياتنا. لكن هذه (الأنا) بمعنى ما هي أيضاً وهم. نحن مجرّد بيولوجيا في النهاية. مجموعة خلايا عصبية (١٠٠ بليون خلية تقريباً) تشكل بمجموعها دماغنا الذي ينشأ فيه كل شيء، أفكارنا، رغباتنا، مشاعرنا، أمزجتنا. تحدث تفاعلات كيميائية ما داخل رؤوسنا، شوارد تدخل وشوارد تخرج، يؤدي ذلك إلى تشكل وانتشار دفقات كهربائية. هذا كل شيء. هكذا تنشأ الأفكار، هكذا تنشأ خياراتنا التي على أساسها نتصرّف. ليس هناك (أنا) منفصلة تُبدع الأفكار. (الأنا) هي دماغنا وخلايانا. الأنا هي طريقة خاصة تعمل بها أدمغتنا والتي لا نعرف عنها سوى القدر اليسير. ليس هناك (أنا) ميتافيزيقية علوية، (الأنا) هي مجرّد بيولوجيا وُرّثتْ لنا ولا سيطرة لنا عليها.

الضربة الأولى التي تلقّاها مفهوم "الإرادة الحرّة" حدثت مع ظهور كتاب "حول أصل الأنواع" لصاحب نظرية التطور شارلز داروين وما لحقه من ثورة في الأفكار. بعد داروين، بدأ العلم يحفر خلاصات جديدة: نحن في النهاية محصّلة قديمة متواصلة لبنية وراثية تطوّرية. لا بدّ إذا أن يكون لهذه البنية الوراثية دور كبير في تحديد هويتنا الإنسانية والشخصية، بغض النظر عن محاولاتنا الشخصية لتحديد هوياتنا.

الضربة الثانية جاءت في العام 1983، من التجربة الشهيرة لعالم الفيزيولوجيا الأميركي بنيامين ليبيت. بالاعتماد على المنهج العلمي وعلم الأعصاب، استطاع ليبيت في تجاربه إظهار أننا عندما نقوم بفعل ما، يحدث نشاط عصبي كهربائي في أدمغتنا قبل قيامنا بالفعل. استطاع ليبيت رؤية هذا النشاط السابق للفعل وقياسه. ليس هذا فقط، بل إن النشاط العصبي الدماغي يحدث قبل (بحوالي نصف ثانية) إحساسنا الواعي باتخاذ القرار للقيام بالفعل. أي يبدو أن العصبونات الدماغية هي التي تبدأ سلسلة الفعْل قبل رغبتنا الواعية به. في العام ٢٠٠٨، في دراسة ألمانية نُشرت في مجلة "الطبيعة" الشهيرة، وبالاستعانة بتقنية الرنين المغناطيس الوظيفي المتطورة، أظهر عالم الأعصاب سون وشركائه أن بعض القرارات الواعية التي نتخذها يمكن التنبّؤ بها بقياس نشاط دماغي سابق لها. بالضبط، قبل عشر ثوان من وعينا باتخاذ القرار!

بعد أبحاث كهذه وأخرى مشابهة، من الصعب النظر إلى مفهوم "الإرادة الحرّة" بنفس البديهية؟ يبدو كأن الأفكار والرغبات والقرارات تنشأ داخلنا قبل أن نكون واعين بها، قبل أن ندرك وجودها. تنشأ من تفاعلات كيميائية فيزيائية لا قدرة لنا حتى الآن على فهمها تماماً، ناهيك عن السيطرة عليها وتوجيهها. وكل ما يحدث بعد ذلك، أن هذه الأفكار والقرارات تدخل وعينا وتُقدَّم لنا مغلَّفَة بشعور وهمي أننا صانعوها. العلم الحديث يدعونا إلى إعادة نظر كاملة لمفهوم الصناعة هذه.

ليس سهلاً التخلّي عن مفهوم "الإرادة الحرة". فدحض هذا المفهوم يقف على تضاد مؤلم مع حدسنا الشخصي. إذا استيقظتُ صباحاً وقرّرتُ أن أشرب فنجاناً من القهوة وأن أستمع إلى الموسيقى، كيف يمكن أن لا يكون لإرادتي علاقة في الموضوع؟ بقدر ما يبدو قرار شربي للقهوة بديهياً وموافقاً للحدس السليم، العلم يناقض هذا الحدس بتجاربه، ولا يمكن التقليل من قدرة العلم في العقود الأخيرة على نقض حدوسنا التي ترسّختْ داخلنا على مدى عقود طويلة بدءاً من تجارب الفيزياء الكمّية إلى تجارب علم الأعصاب. عدا أن الدافع الفلسفي لمفهوم "الإرادة الحرّة"، قوي جداً ولا يمكن دفنه تحت سجادة العلم بسهولة. فالإنسان المعاصر تدفعه قوى عاصفة عميقة لامتلاك حاضره والسيطرة على مستقبله.

الدراسات العلمية التي دحضَت مفهوم "الإرادة الحرّة" واجهت بعض المعارضة من داخل العلم نفسه، في دراسات عالم الأعصاب الأميركي آرون شروجر، لكنها برأيي ورأي العديد من المفكرين المهتمين في الموضوع، دراسات غير مقنعة تماماً ولا تثبت العكس. وبجميع الأحوال، باتت فكرة راسخة الآن علمياً أننا كأرقى وأذكى ما وصل إليه تطوّر الكائنات الحيّة، وبالرغم من امتلاكنا لدرجة متطورّة جداً من الوعي، فإن سيطرتنا على أفكارنا ومعتقداتنا ورغباتنا وأفعالنا أقل بكثير ممّا كنا نعتقد سابقاً. هناك بنية بيولوجية وراثية شخصية وتاريخية محفورة عميقاً في أدمغتنا تقف إلى حدّ كبير خلف اختياراتنا وأفكارنا. الاكتشافات الحديثة في علوم الفيزياء والمادة، أكان ذلك في ما يخص الفيزياء الكمّية أو نظرية "الفوضى" أو غيرهما لا تتوافق مع "الإرادة الحّرة". لماذا اخترتُ أن أبدأ صباحي بشرب القهوة، ولماذا يختار غيري أن يبدأ صباحه بالتمارين الرياضية أو بالكتابة؟ ربّما لأن أدمغتنا مركّبة ومشكلّة عصبياً بطريقة لا تسمح باختيارات أخرى. يشبّه المفكّر سام هاريس الموضوع كمَن يدّعي أنه يتحكم بضربات قلبه. نعرف أن هذا مستحيل.

طبعاً، تحطيم مفهوم "الإرادة الحرّة" له تبعات فلسفية وأخلاقية وقانونية عميقة. هل هذا يعني أن مُرتكبي الجرائم غير مسؤولين عن أفعالهم؟ ماذا عن مجرمي الحرب؟ هل يمكن لمـُرتكب الخيانة الزوجية الهروب من قدر الخيانة؟ (في بعض المحاكم الأميركية، أُدخِلتْ في العقد الأخير جدالات "الإرادة الحرّة" من بعض المحامين للدفاع عن مرتكبي جرائم). لا أدّعي أني أمتلك أجوبة على الأسئلة السابقة، ففي النهاية هذا مجرّد مقال مختصر جداً لجدال استهلك وما زال الكثير من الفلاسفة والمفكّرين والباحثين. لكن يمكن التأكيد هنا، أقلّه في البعد الأخلاقي، بأن ضرورة ردع الجريمة منفصل عن مسبّباتها. بغض النظر عن الأسباب، يجب عقاب المجرم وعزله لحماية المجتمع.

وأليس من المحتمل أن يعزّز فهمٌ أعمق للذات الإنسانية وطريقة عملها فهمَنا للآخرين وتحملّنا لبعضنا البعض؟ فنحن في النهاية جميعاً عالقون في متاهة الحياة الغامضة نفسها، نحاول أن نخرج منها سالمين، ولا سيطرة لنا سوى على جزء يسير منها. ربّما في مواجهة بعض أوهامنا والتخلّص منها بعض العزاء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها