النافذة.. تلك التي تأتي منها الأحلام ولا تأتي

ليس أفضل الجلوس قرب النافذة في الطائرة، لكني أختار الكرسي بجوار النافذة حين أسافر في القطار. جرّبت التحديق في الفضاء من نافذة الطائرة مرات عديدة، وباستثناء تهويمات الفراغ المطلق، لم أستقرّ على معنى فعلي، قدر ذلك الذي يمثله لي مدى النظر من نافذة القطار الذي يمشي على السكة، يصعد ويهبط، وينعطف، ويثير ضجيجاً، وخلال الرحلة نعبر من النافذة بلاداً وبشراً وجغرافيات، ونحلم في كل محطة نصلها، كي نغادرها. وما بين المحطات يمر الوقت، وتسافر الأحلام.

لا أستطيع العمل في مكتب من دون نافذة يدخل منها الضوء، وتنفتح على الخارج. وأجمل النوافذ تلك التي تطل على مشهد، يجعل العين تسافر، وتتنزه مثل البحر، أو السهل، ومنها يمكن مشاهدة السماء، التي تشعر المرء أنها أوسع نافذة فوق الأرض، ولذلك بقي الإنسان يتأمل السماء، وهي تقف فوق رأسه بكل ما تحمله من أسرار.

النافذة من أجل أن يدخل الهواء والنور، وهذا طبيعي، لكن ماذا عن النافذة التي نبحث عنها في السفر والجلوس والسكن؟ لا يمكن أن أسكن بيتاً بلا نافذة مفتوحة على مشهد ديناميكي، كما لو أن النافذة تشكل وسيلة قطع بين الداخل والخارج. "الثلج يأتي من النافذة"، رواية حنا مينة التي ترك عنوانها أثراً شعرياً لدى فئة واسعة من القراء، تبقى النافذة فيها ممراً إلى العالم الخارجي، وصِلَة الوصل بين عالمي الداخل والخارج. "غرفة بملايين الجدران"، عنوان ديوان محمد الماغوط، يوحي بالسجن فوراً. جدران عالية، ولا نوافذ. يتشكل هذا الإحساس لوحده، وتكفي اللغة ليحس المرء أنه معزول، كما يحصل في بيت بلا نوافذ تطل على عالم خارجي، حيث تتشكل صِلاتٍ لا حصر لها.

النافذة تقود إلى النافذة أحياناً، وتتحول إلى صِلة وصل مع العالم الجديد. هناك نوافذ لا يظهر منها شيء، وفي المقابل هناك نوافذ مخلعة مفتوحة على كل العوالم، وتبقى النافذة في السجن فرصة السجين إلى الحرية، ويخف شقاء الزنزانة حين تكون مزودة بنافذة، ولذلك يرسلون السجناء السياسيين إلى زنزازين بلا نوافذ، كي يعتادوا نسيان الحرية.

في السينما والأدب لعبت النوافذ دور البطولة، وكثيراً ما تحضر صور النوافذ والستائر، في الحكايات الكلاسيكية والروائع المعاصرة. وهي ذات أبعاد رمزية كثيرة، وإذا كانت الشخصية تحدّق من نافذة، على سبيل المثال، فقد تكون لديها رؤية ضيقة للعالم. وقد يمثل المشهد أن الشخصية تشعر بأنها محاصرة، أو معزولة عن الآخرين. في حالات أخرى، يمكن للنافذة أن ترمز إلى الأحلام، لنوع مختلف من الحياة، أو فرصة للهروب. وترى دراسات أنه في رواية "مرتفعات وذرينغ" لإميلي برونتي، الكلاسيكية عن الحب والغيرة، غالبًا ما يتم حظر الشخصيات بنوافذ مقفلة، ما يرمز إلى الآثار الضارة للانتقام، وفي أوقات أخرى، تُترك مفتوحة، ما يدل على ضعف الشخصية. في أحد المَشاهد، يفتح هيثكليف نافذة للسماح بدخول شبح كاثرين. وفي مشهد آخر، تترك نيللي النافذة مفتوحة للسماح لهيثكليف بالدخول إلى غرفة كاثرين. في المشهدين، تذهب الشخصيات إلى مكان لا ينبغي أن تذهب إليه، لذلك تستخدم النافذة بدلاً من الباب. وفي رواية "مدام بوفاري" للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، تمثّل النوافذ إمكانة هروب لإيما لن تحصل عليها أبدا. وفي تفاصيل الرواية، نجدها تنظر من النوافذ أو تلوح وداعاً لعشاقها. وفي الأدب عموماً، النافذة جسر مرئي بين الداخل والخارج.

وفي مرحلة من الشعر الفرنسي، شاع استخدام مفردة نافذة (la fenêtre) لدى بودلير "لا شيء أكثر عمقاً وغموضاً وحملاً وأكثر مكراً وإبهاراً من نافذة مضاءة بشمعة واحدة"، مالارميه، ابولينير. هي ما يعرف بالنافذة الفرنسية la fenêtre à la française العالية والتي تنفتح درفتاها معاً للتهوئة والوشوشات الآتية من بيوت الجيران. حول النوافذ، مصاريع وزخارف حديدية وأحواض زهور بألوان زاهية. ورغم عدد قليل من الستائر في الداخل، إلا أن هذه العناصر الموجودة على الجدران تساعد في تزيين شوارع المدينة، وهذه النوافذ في الحي هي العيون التي تسهر على الشارع.

وفي قصيدة قسطنطين كفافي، شاعر الاسكندرية، تضيء النافذة، لكنها تشكل أيضاً تهديداً، لأن الضوء يمكن أن يفضح الكثير من الأشياء:

النوافذ
في هذه الغرف المظلمة التي أمضي فيها أياماً ثقالا،