الثلاثاء 2022/05/03

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية.. الواقع أم الاحتفال؟

الثلاثاء 2022/05/03
القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية.. الواقع أم الاحتفال؟
القاهرة
increase حجم الخط decrease
تشهد مصر، سلسلة فعاليات ممتدة بمناسبة اختيار القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية للعام 2022، بمعرفة منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو"، التي تعمل في إطار "منظمة التعاون الإسلامي". وتهدف "إيسيسكو" ببرنامجها إلى تقديم "صورة حقيقية" عن الحضارة الإسلامية العريقة، وتوطيد أواصر العلاقات بين الشعوب التي تتشارك في الكثير من المفردات والعناصر، وإقامة حوار إبداعي خلاق وتعزيز مجالات التواصل الفكري بين أبناء الأمة الإسلامية، إلى جانب تعزيز مضامين التراث الزاخر بالمفاهيم التي تدعو إلى التسامح والتعايش، وإبرازها أمام العالم المعاصر.

تأتي الفعاليات المصرية الرسمية، الخاصة بهذه المناسبة، والتي عنونتها وزارة الثقافة المصرية بقيادة الوزيرة إيناس عبد الدايم بـ149 فعالية على وجه التحديد، ما بين نشاطات ثقافية وفنية وورش للحرف التراثية والتقليدية وغيرها. وتعيد هذه الفعاليات تفجير التساؤلات، التي تتردد على الساحة خلال السنوات القليلة الماضية، حول المقصود بازدهار القاهرة الإسلامية وتنميتها، خصوصًا في ظل المشروعات القومية الضخمة، التي يجري الحشد لها، من قبيل مخططات تطوير الأجزاء المختلفة للقاهرة التاريخية، كالقاهرة الخديوية في منطقة وسط البلد، والقاهرة الفاطمية، والمملوكية، وقاهرة الفسطاط، وغيرها من المبادرات التي يضطلع بها "الجهاز القومي للتنسيق الحضاري"، وأجهزة الدولة المتعددة في مصر.

على رأس هذه التساؤلات المثارة: هل المقصود بهذه الاستراتيجيات إنجاز واقعي أم كرنفال احتفالي؟ وهل إقامة القاهرة التاريخية (بتجلياتها وشواهدها المتنوعة) على الأرض، وتنصيب القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية، هو أمر فعلي أم مجازي؟ وبمعنى آخر: هل ما يتردد عن استعادة القاهرة التاريخية وإحيائها من جديد، يكون عبر ترميم الآثار والمزارات وطلاء البنايات التاريخية وطباعة الموسوعات الباذخة وعقد ندوات المفاخرة والتغني بأمجاد الماضي وما في هذا السياق؟ أم أن المقصود خلق مناخ فكري وثقافي وحضاري متطور، ينبني على جهود جادة وابتكارية تواكب العصر، بما يسمح بتوهج القوة الناعمة في مصر، وعودة القاهرة إلى عهدها القديم كعاصمة ثقافية تفاعلية، ومصدر إشعاع في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، كما كانت في القرنين الماضيين؟ الفرق كبير بطبيعة الحال بين المقصد الأول الذي يقتصر على الأسطح الظاهرية ودغدغة المشاعر والخيال، وبين المقصد الثاني الذي يرمي إلى تدشين مشروع نهضوي جديد، متكامل، ومتعمق.


تكاد ترتكز أحلام المؤسسة الرسمية بمصر في مخططاتها لاستعادة القاهرة التاريخية والإسلامية على عنصرين أساسيين لتفوق القاهرة، هما الآثار الإسلامية، والنمط المعماري. وتشير الهيئة العامة للاستعلامات صراحة في تعيينها حيثيات اختيار القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية 2022 إلى أن هذا الاختيار يعود إلى مقوّمات ماضوية في مجملها، منها أن القاهرة من أهم المدن التراثية وأكبرها في العالم، وتضم عددًا كبيرًا من الآثار من مختلف العصور الإسلامية، بخاصة المساجد، كما تمتلك تحفًا معمارية وأبنية فريدة تنتمي إلى عصور مختلفة.

ويتسق جدول الـ149 فعالية، على مدار العام الجاري 2022، مع هذه الرؤية القائمة على تثبيت الماضي، ونحته، وإعادة تدويره. ومن هذه الفعاليات، على سبيل المثال (في الإطار الفني والثقافي): تنظيم معرض للوثائق التاريخية النادرة التي تروي سيرة المدينة العريقة، وإقامة عرض لكلاسيكيات الأفلام العربية والإسلامية، وتنظيم ندوات ومحاضرات وأمسيات حول جماليات العمارة الإسلامية، وإقامة معرض للتصوير الفوتوغرافي عن جماليات القاهرة التاريخية، ومعرض مستنسخات لصور مساجد مصر، ومؤتمر دولي بعنوان "تراث القاهرة غير المادي في ألف عام"، وندوات عن الفلكلور المصري وتأثيره في دول العالم الإسلامي، ومعرض لرسوم الأطفال بعنوان "مصر في عيون أطفال دول العالم الإسلامي"، وحفلات للإنشاد الديني والصوفي، وما إلى هذا القبيل.

وفي السياق ذاته، فإن إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة تعيد ببساطة شديدة سبب استحقاق القاهرة "أن تكون منارة الثقافة والتنوير عبر العصور" إلى أنها بلد الألف مئذنة، قاهرة المعز، ساحرة الشرق، حاملة شعلة الحضارة، كما أنها مدينة الكنوز التراثية، التي تشكلت وتمثلت في آثار مادية متنوعة، منها القلاع والحصون والأسوار والمدارس والمساجد. وتشير الوزيرة إلى أن المدينة بفعالياتها الجديدة في 2022 تسعى إلى "تقديم ثقافتها وحضارتها إلى العالم بأسره، ليقف حاضرها شاهدًا على أصالتها وعراقتها، وحاملًا لقيم الجمهورية الجديدة".

أما الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، الذي يضطلع بمخططات القاهرة التاريخية منذ سنوات، فإنه يدلي بدلوه في احتفاليات القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية 2022 في الإطار التراثي ذاته، بإطلاق مشروع "لحظات" ضمن مبادرة "ذاكرة المدينة"، بهدف التعريف بالعاصمة المصرية، وتوثيق معالم المدن التراثية، والعمران المصري، عبر العصور.

إن ما يجري على الأرض، بعيد كل البعد عما يكثر قوله على الصعيد الرسمي، على الأرض أيضًا، من أن مصر في سبيلها عما قريب إلى استعادة القاهرة التاريخية، تلك العاصمة القديمة الجديدة، الملقّبة بباريس الشرق وعاصمة النور، مثلما كان يحلم الخديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر.

كما يردد المسؤولون أنه لا يزال بالإمكان إحياء المدينة الشامخة كرائدة في الحضارة والفكر والثقافة والفن والمعمار، واسترجاع عقود الازدهار والتقدم في سائر المعارف والعلوم والآداب والإبداعات. 

تحت هذه العناوين والشعارات البراقة، التي لا يخفى ما فيها من مبالغات وادعاءات، تندرج مشروعات ومبادرات كثيرة، منها القاهرة الخديوية، والقاهرة الفاطمية، والمملوكية، وقاهرة الفسطاط، وغيرها. وتكاد تنصرف الجهود والأموال والإجراءات والاحتفالات، التي يقيمها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، بالتعاون مع المجلس الأعلى للآثار، ووزارات الثقافة والأوقاف والسياحة والإسكان، وغيرها من الجهات، إلى ترميم بعض الآثار والمزارات والأبنية التاريخية وواجهات العمارات، وتطوير الشوارع والميادين العريقة.

كما تنصرف بعض هذه الجهود إلى الحفاظ على الروح الشعبية في المناطق التراثية، ودعم المهن التقليدية والصناعات اليدوية، وإزالة حالات التعدّيات على الآثار الإسلامية والتاريخية، وتنسيق الألوان والاهتمام باللافتات، وزيادة مساحة المسطحات الخضراء، ومحاولة ربط المناطق التاريخية والأثرية بالحياة الراهنة عبر توفير الأسواق والمرافق والخدمات والمتنزهات للمواطنين، من أجل تحقيق الانتعاش السياحي، الداخلي والخارجي. 

منطقي القول إن مثل هذه الخطوات والمبادرات هي أمور طيّبة، في إطار الحفاظ على التراث وحماية الآثار والحد من التدهور العمراني والعشوائية البصرية في القاهرة الإسلامية والتاريخية، وما إلى ذلك. أما غير المنطقي، وغير المقبول، فهو اعتبار أن هذه الاستراتيجيات والآليات، المصحوبة عادة بصخب إعلامي ونشر موسوعات وبث أفلام تسجيلية وتوثيقية وخطب منبرية، هي بمثابة تدشين القاهرة التاريخية في ثوبها الجديد، أو اعتماد القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية، أو استعادة لفكرة أن القاهرة (بهذه الرتوش) هي باريس الشرق وعاصمة النور، و"منارة للثقافة والتنوير عبر العصور"، على حد قول وزيرة الثقافة المصرية.

إن الحديث الحماسي عن أن القاهرة في سبيلها إلى أن تكون متحفًا عالميًّا مفتوحًا أمر يتعارض مع أبجديات النظر الأوّلي إلى ما آلت إليه المدينة، وغيرها من المدن المصرية، من التردي في قاع التلوث المناخي والسمعي والبصري، والفوضى، والعشوائية، ما يجعلها في خصومة مع مفاهيم الشخصية المعمارية والهوية السكانية والإحساس الجمالي في البناء، على أي مستوى من المستويات، فعن أي متحف يتحدثون؟ كما أن الحديث عن المدينة بوصفها قبلة التنوير ومنصة الإشعاع، لمجرد طلاء بعض أبنيتها وترميم آثارها، فهو أمر مجحف، إذ يختصر المدينة في صورة بناء عتيق، ويهدر ما تشهده حاليًا من تراجع ملموس للدور الثقافي المصري على المستوى العربي والإقليمي والعالمي، وانحسار القوة الناعمة في دوائر انتفاعية ضيقة، ضعيفة التأثير، محليًّا وخارجيًّا على السواء.

لقد حلم الخديوي إسماعيل ذات يوم بأن تصبح القاهرة عاصمة للعالم كله، وليس للعالم الإسلامي فقط، ولكنه كان يستند إلى معطيات حقيقية وواقعية وجادّة في عصره، لم يعد منها في الوقت الحالي ما يسمح بتكرار الحلم. هذه المعطيات كانت تعكس نسقًا حضاريًّا متكاملًا، ومفهومًا نهضويًّا شاملًا، وفلسفة طامحة إلى بلورة الشخصية المصرية الفاعلة والمتفوقة في سائر المجالات. إن اختصار الأمر في مسألة صيانة المعمار أمر مثير للدهشة من فرط سطحيته، فهل تجديد شارع عماد الدين مثلًا كشارع تراثي، سيعيده مصدرًا للأضواء الثقافية والفنية الحية المنبعثة من المسارح ودور العرض السينمائي التي كان يمتلئ بها في مراحل النهضة المصرية؟

لم تكن النهضة المعمارية غير خيط واحد من منظومة نهضوية مصرية، تضمنت سائر خيوط الثقافة والفن والفكر والعلم والمعرفة، وهي المنظومة التي فهمت معنى البناء السليم، وتعاملت بواقعية مع مستجدات عصرها، ومع التراث القابل للمراجعة والتمحيص. كما أنها وسّعت صدرها للآراء المتنوعة والمختلفة، والتيارات المتعددة الداخلية والوافدة، بما في ذلك الحضارة الغربية المتقدمة، التي توجّه إليها الخديوي إسماعيل بدون نرجسية زائفة، ومن غير إحساس بالدونية في الوقت نفسه، فاقتربت العاصمة المصرية من أن تكون قطعة من أوروبا، حقيقة لا خيالًا. فهل تمضي القاهرة على مثل هذا الدرب المدروس، من أجل استحقاق فعليّ لأن تكون عاصمة الثقافة الإسلامية 2022؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها