الأحد 2022/05/29

آخر تحديث: 09:57 (بيروت)

شتوتغارت: مشاهدات من «يوم الكنيسة» الكاثوليكيّ

الأحد 2022/05/29
increase حجم الخط decrease
«يوم الكنيسة» هو فكرة ألمانيّة بامتياز. تنظّمه الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة الإنجيليّة، على قاعدة المداورة، مرّةً كلّ سنة. هذه السنة، كان دور الكنيسة الكاثوليكيّة في التنظيم، وذلك بعد انقطاع دام أكثر من ثلاث سنوات بسبب جائحة كورونا.

كلمة «يوم» ملتبسة في هذا السياق. فهذا النشاط عبارة عن مجموعة من المنصّات والحلقات والمحاضرات واللقاءات يتقاطر إليها آلاف الأشخاص. وهي تنطلق، في العادة، يوم الأربعاء الذي يسبق خميس الصعود، بحسب التقويم الغربيّ، وتدوم حتّى الأحد صباحاً.

مدينة شتوتغارت، التي احتضنت هذا العام المهرجان الكنسيّ السنويّ الأكبر في ألمانيا، مدينة غنيّة بتناقضاتها. بخلاف الفكرة الشائعة عن الحضارة الغربيّة «المسيحيّة»، فإنّ المسيحيّين في شتوتغارت باتوا لا يشكّلون سوى ٤٨ بالمئة من مجموع السكّان، وذلك في بقعة من الجنوب الألمانيّ كانت تُعتبر قبل حوالى ثلاثين سنة واحدةً من معاقل الحضور الكنسيّ في بلاد الجرمان. وفيما يجنح عدد كبير من الناس إلى التخلّي عن الإيمان المسيحيّ من دون أن يصبحوا ملحدين أو لا-أدريّين بالضرورة، لا تقلّ نسبة المسلمين في هذه المدينة عن العشرين في المئة، وهي نسبة عالية مقارنةً بالمدن الألمانيّة الأخرى. من يترك الكنيسة اليوم نادراً ما يذهب إلى الإسلام. فهو غالباً ما يتّجه إلى نوع من اللامبالاة، أو إلى صوغ دين فرديّ معظم عناصره مستمدّة من البوذيّة والهندوسيّة، فضلاً عن تمارين التأمّل واليوغا وطقوسيّات الامتناع عن أكل اللحوم ومشتقّات الحليب، كائناً ما كان المصدر الدينيّ لمثل هذه الممارسات.

تخيّم أجواء تقهقر الإيمان الكاثوليكيّ في ألمانيا على هذا اللقاء، فضلاً عن الحرب في أوكرانيا وما تستحضره من أسئلة عن علاقة الكنيسة بالدولة وتبريرات العنف في الخطاب الكنسيّ الرسميّ. الذين اختبروا يوم الكنيسة الكاثوليكيّ الماضي في مدينة مونستر، العام ٢٠١٨، لا يخفون خيبتهم. آنذاك، كان عدد المشاركين في اللقاء المنعقد في واحدة من قلاع الكثلكة في ألمانيا حوالى ٨٠ ألف شخص، فيما لم يتجاوز العدد هذه السنة خمساً وعشرين ألفاً. لا أحد يزايد على الألمان في واقعيّتهم الجارحة. هم يدركون تماماً أنّ هذا التراجع لا يمكن عزوه إلى الجائحة وخوف الناس من الإصابة بالفيروس فحسب. ثمّة شرخ آخذ في التوسّع بين العقل الألمانيّ الجمعيّ والمُؤَسّسة الكنسيّة الكاثوليكيّة تعود أسبابه إلى تعاملها المتبلّد مع فضائح التحرّش الجنسيّ التي تعصف بها منذ سنوات، وإلى تباطئها في إصلاح ذاتها في مسائل غاية في الحساسيّة تختصّ بالمثليّة الجنسيّة ودور النساء في الكنيسة، وإلى الشعور المتعاظم بأنّ القيادة الكنسيّة جسم موصد يسرف في المحافظة ولا يستسيغ النقد.

ولا تنجو الكنائس الإنجيليّة من هذا اللوم. فهي، وعلى الرغم من دخول النساء فيها عالم الكهنوت والأسقفيّة، إلّا أنّها تشكو من تقهقر قدرة واعظيها وواعظاتها على تحريك البشر، ومن تقاطع مع الخطاب السياسيّ المعهود يصل أحياناً إلى حدّ التماهي. في مدينة مثل شتوتغارت مطبوعة بالسياسة الخضراء، ماذا يفيد الناس أن تتحدّث الكنيسة عن الإيكولوجيا وكأنّها واحد من الأحزاب؟ والعارفون يدركون أنّ الكنيسة الإنجيليّة في ألمانيا، منذ العام ٢٠١٥، فشلت في جعل قضيّة اللاجئين قضيّتها المركزيّة. ففيما كانت الدولة الاتّحاديّة تصرف المليارات على القادمين من جحيم الحرب في سوريّا، كانت الكنيسة الإنجيليّة منشغلة في صرف الملايين للاحتفال، العام ٢٠١٧، بيوبيل المئويّة الخامسة لحركة الإصلاح البروتستنتيّ، وذلك في جوّ من الانتصاريّة المفرطة أصاب الكثيرين بالإحباط.

في يوم الكنيسة الكاثوليكيّة في شتوتغارت، ليست الكنيسة الأرثوذكسيّة أفضل حالاً. فعدد من أحبارها متّهم بالوقوف إلى جانب الطاغية في روسيا، وبتقصيره في الاستفادة من خبرة الحرب في أوكرانيا بما يخدم القيام بمراجعة نقديّة للعلاقة بين السلطة الكنسيّة والدولة. وتبدو الكنائس الأرثوذكسيّة اليوم لكثيرين كنائس ذكوريّة، عصيّة على الإصلاح، ما زالت تتشبّث بمنهجيّة تفكيريّة عقيمة ومنظومة قانونيّة مترهّلة من أزمنة غابرة.

والحقّ أنّ الرأي العامّ «العلمانيّ» لا يرحم الكنائس، بل يطالبها بإصلاحات عميقة، وبتبدّل جذريّ لكيفيّة تدبّرها شؤون المجتمعات في مطلع الألفيّة الثالثة لميلاد المسيح. هل قرّر يسوع الذي من الناصرة الخروج من الهياكل وملاقاة الناس في الشوارع والساحات بطرق أخرى لم يعطَ لأحد أن يسبر غورها؟ هل تنطبق عليه، بمعنى ما، مقولة رومانوس المرنّم الحمصيّ الجميلة، وقد كتبها في الأصل مديحاً لأمّه مريم، سيّدة نساء الأرض، أنّه الذي، في ولوجه قلوب الناس من خارج القنوات «الكنسيّة» التقليديّة، «لم يُعلم أحداً عن كيف»؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها