- مدنك الخيالية السابقة "دملان" و"مايا" وغيرها تختلف عن المدن التي تقدمها هنا والتي يمكن ردها إلى جغرافيا واقعية إن أمكن القول. ما الذي اختلف هذه المرة؟ في السياق نفسه كيف يتطور مفهوم المدينة لديك لأنها تظهر بأشكال مختلفة مع كل عمل؟
* عندك كل الحق، اختلفَت علاقتي بالمكان هذه المرّة. فبسبب شدّة تشابك عالمنا في ظلّ العولمة المفرطة، وتأثير التكنولوجيا والمواصلات الحديثة على دمجِه (حيث صار سعال أحدهم في مدينة ووهان الصينية، يقود إلى جائحة دولية بعد دقائق)، قمتُ في هذه الرواية بتصميم مدينةٍــعالمَ سمّيتُها: أطلس، وبتأثيثِها بأحياءٍ شديدة التلاحم ومختلفةِ التطوّر أيضا.
حاولتُ أن لا أظلّ أسيرَ قيود الجغرافيا عند تخطيط هذه الأحياء. وجدتُ سعادةً في التصميم الهندسي الحرّ للمكان، ووسيلةً أريبةً تجرّ القارئ إلى تصوّر تفاصيل فضائه وبنائه المعماري ذهنيّا؛ وتملأ دماغَهُ بالفرضيات عن العلاقة بين هذا المكان في الرواية أو ذاك، وبين هذه المنطقة الجغرافية المعروفة أو تلك من كرتنا الأرضية؛ وتؤجج في ذهنه، طوال قراءته، رغبة الكشف عن هويّة هذا المكان أو ذاك، وفكّ أسراره.
إذ شيّدتُ أحياءَ أطلس بطريقة توحي أحيانا، أكثر أو أقلّ، بأننا هنا في "وادي السيلكون" في كاليفورنيا، أو في استراليا ونيوزلندا، أو هناك في أرخبيل سقطرى في اليمن، أو في جبهات المليشيات والديكتاتوريات والحروب العربية، أو مخيّمات اللاجئين حول أو داخل أوروبا.
- تأتي سينديا أو زرقاء اليمامة أو زريقة من "المستقبل القريب"، ثم يتولى الراوي الذي لا اسم له مراقبتها في الزمن نفسه الذي تعرف فيه ما سبق وأخبرته به، وفي أزمنة مستقبلية أيضاً. هذا الالتباس يفتح الباب أمام أكثر من تفسير/قراءة يدعمها عصر "الزمكنة" حيث لا فواصل بين الحدود والأزمنة. كيف تحكمت في هذا الزمن المفتوح واللانهائي؟ وكيف ترى مسألة التأويل وأنت كاتب النص؟
* عندك كل الحقّ أيضا في تساؤلك عن فلسفة الزمن في هذه الرواية. شغلَتني كفلسفة المكان الذي تطرّق لها سؤالك السابق. تعرف أن البعد الرابع، أي الزمن، لا وجود له في حدِّ ذاته. ليس ثمّة غير الحركة. الزمنُ تمثّلٌ ذهنيٌّ ينطلق من مفهوم الحركة وينتجُ عنه. وُلِدَ الزمن بعد البيغ بونغ، قبل 13.7 مليار عام. قبل ذلك، لا معنى لمفهوم الزمن.
وفي مدينةٍ مندمجة واحدة كأطلس، التفاوتُ الهائل المتصاعد بين سرعتَي تطوّرِ حياتَي حيّ ألف (حيّ الثراء والتطوّر التقني والعلمي المذهل)، وحيّ ياء (حيّ التقوقع والتخلف، حيث يعيش العرب)، يجعل الأقلّ إسراعا في التطوّر والأكثر تحجّرا ثقافيا (أي حيّ ياء)، يتموقع زمنيا في الماضي، من وجهة نظر مرجعيّةِ أطلس الزمنية: حيّ ألِف. عصران في زمنٍ ومكانٍ واحد
عدا ذلك، تجسّسُ الراوي ومراقبتُه اليومية لسينديا وفريد، وهما يتنقّلان في كلِّ أطلس، يجعل للرواية بعدا بوليسيا أيضا (بجانب بُعدِ التخييل الاستباقي العلمي)، مملوءاً بالمفاتيح والمحاولات التأويلية التي يفترضها الراوي، والتي قد تتفّق معها تأويلات القارئ أو تختلف.
- قلت من قبل إن المواجهة مع أعداء الإنسان، من طغاة وظلاميين، ثقافيةٌ في الجوهر وأنك مؤمن بقدرة الرواية على التغيير. ما الذي تطمح إليه من وراء هذا العمل، هل تطمح في أن تنبه روايتك لخطر حمى أو "جائحة الشاشات" التي تجتاح العالم حالياً؟
* الحرب الروحية ضد الطغاة والظلاميين ليست غائبة عن هذه الرواية أيضاً. هما سبب تقوقع حيّ ياء في ماضيه المتخثِّر. غير أن الرواية تُنبِّه لمخاطر جديدة كثيرة، إحداها فقط "جائحة الشاشات". اشتغلتُ في هذه الرواية، على نحو خاص، على مخاطر التجسّس الإلكتروني والروبوتات الذكيّة القاتلة، التي أعرف مخاطرها وتقنياتها شخصيا، بحكم تخصّصي العلمي، ورسمتُ لها سيناريوهات روائيةً معقولةً وممكنة، وخطيرة جداً. مخاطر شدة نفوذ تحالف قوى المال والتكنولوجيا لقيادة مصير العالم، ورفض الانجراف في مدِّها الأعمى، هوَسٌ مهيمنٌ آخر للرواية.
- تنطلق الرواية من مأزق الهجرة واللجوء، لكنك تتجاوز معاناة أو ميلودراما الهجرة، إن أمكن القول. باستثناء بعض المشاهد والإشارات، لا تتوقف كثيرا عند هذه النقطة. هل كان هذا لصالح الحفاظ على خط محدد للعمل؟ أم أنك توفر هذه القصص لكتاب قادم؟ أم لا تفضل هذا النوع من الكتابة؟
* مأزق الهجرة واللجوء ليس الكلُّ في الكلِّ في الرواية، كما لاحظتَ. هو أحدُ مسارحها وأبعادها. ومنطلقُها فقط. لا أعرف بعدُ هل امتلكُ "الكتلة الحرجة"، كما يقول الفيزيائيون، من المواد الروائية الخام، لتشكيل عملٍ إبداعيٍّ جديد متخصِّصٍ فيه، أو إن كانت التراكمات الكميّة الروائية، لما لديّ حول هذا الموضوع، ستفضي يوماً إلى تحوّلٍ نوعيٍّ يسمح بكتابة روايةٍ خاصّة، تناسب مزاجي، في إطار هذه الثيمة الأدبية الثريّة والتراجيديّة حقاً.
- ربما بتأثير من السينما تعوّدنا على التفاؤل في مثل هكذا موضوعات، فرغم ثقلها ودستوبيتها، دائماً ما يأتي البطل في النهاية لينقذ العالم. لكنك لم تفعل ذلك فقط تركت الراوي يحاول استعادة حضوره الإنساني بقلب جزيرة المطففين/الغشاشين تلك بعد انتشار أسرار كتابه في الإنترنت. هل هي رؤية تشاؤمية أم واقعية لمستقبل العالم؟ وهل يمكن القول إن المآلات الحالية للثورات العربية هي الدافع لتقديم هذا العمل المغرق في الدستوبيا؟
لا تخلو الرواية من سوداويةٍ هنا وهناك، ومن تأثّرٍ بما قادت له الثورات العربية من تعثّرات وهزائم، لكن جميع شخوصها الرئيسية، وفي مقدمتهم سينديا و"المكافح الإلهي" وفريد، صامدون وفاعلون من أجل التغيير، يقاومون عبر البحث عن الحقيقة وكشف السرّ؛ وعبر التضامن مع المسحوقين، ورفض الطغاة والظلمات؛ وعبر الحبّ والعشق، أوّلا ودوما وأبدا، كبوصلةٍ وطريقٍ في الوقت نفسه.
- أنت محب للسفر ودائماً ما توظف رحلاتك داخل نصوصك بشكل ما، وإن كانت هناك مدن محرضة على الكتابة فأي البلاد تحرضك؟
* السفر، بحدِّ ذاته، هو المحرِّض كونه وسيلةً وغايةً معاً. أحتاجهُ شخصياً كروائي وعاشقٍ للسفر، على نحوٍ عضوي لا شفاء منه. ليس لأجل السعادة، بل لأنه السعادة بحدِّ ذاته. بل أكثر من السعادة، لأنه مفتاحي لمعرفة الذات، عموماً.
إحدى مشاكل ثقافتنا العربية الكبرى: التقوقعُ على الذات، والدوران حولها كالخذروف لاكتشاف أنفسنا. خطأٌ جوهري ساحق. لعلّ شعار حياتي الحكمةُ الصينية المعاكسة تماماً لمنهجنا العربي السائد: "إعرف الآخر، تعرف نفسك". أي: لمعرفة ذاتك، يلزم أن يكون معيارك وإحداثياتك: الآخر، وليس ذاتك. والسفرُ أروع الوسائل لبلوغ ذلك.
ثم السفرُ تأكيدٌ لإنسانية الإنسان، مطبوعٌ في جيناته: كلّ تاريخ هومو سابيان "الإنسان العاقل" خلال الـ300 ألف سنة من حياته، وأجداده من الأنواع البشرية الأقدم (لا سيّما هومو هابيليس "الإنسان الماهر"، وهومو نارانس "الإنسان الحاكي": مخترعِ صيغة "كان يا ما كان!") لم يقُدِ الإنسان إلى ما هو عليه الآن، دون سفرهِ وغزوهِ العالم.
شعاري الثاني: "السفر دوماً من دون خريطة طريق" (آخذُ لسفراتي الطويلة دوماً تذكرة الذهاب فقط، وأترك اختيار آخر مدن وبلاد العودة لما تُقرِّره تنقّلات ويوميات السفر واكتشافاته).
انبثقت كلُّ أحداث "جزيرة المطفِّفين" من سفرات متداخلة في عوالم بالغة التطور والرقي، أو عميقة البؤس والتخلف. تُحرِّض جميعها على السرد الروائي، بدون تمييزٍ في رأيي.
- تنتظر صدور "تقرير الهدهد" بالفرنسية. ما المختلف في تجربة النشر الغربية عما اعتدته في العالم العربي؟
* نشرتُ سابقا رواية بالفرنسية: "الملكة المغدورة". تُرجِمَت لي بعدها روايةُ "ابنة سوسلوف" إلى الانكليزية والفرنسية. كُتِبتْ حولهما مقالات عديدة في كثيرٍ من الصحف والمجلات الفرنسية المهمة، وأجريَتْ مقابلات أيضاً. حسب تجربتي، ثمّة اهتمام في الغرب ودقّة في الترجمة وحضور دائمٍ واسع للأعمال الأدبية والثقافية.
"تقرير الهدهد" كبيرةُ الحجم، أخذَتْ كتابتُها منّي وقتاً طويلاً. سعيدٌ أنها، بعكس معظم الروايات العربية المترجمة إلى الفرنسية (التي تسرد أهوال واقعنا العربي ومآسيه)، تُسلِّط الأضواء على صفحةٍ ناصعةٍ من تاريخنا، وعلى أحد أعظم وأخلد مبدعينا الذي لم يبدأ بعدُ عصرُ مشروعِه "لا إمام سوى العقل" في حياتنا العربية: أبي العلاء المعرّي، المجهولِ كليّة في واقعنا العربي (لأسباب معروفة: هو ديناميتٌ ضدّ الفكر الظلامي، وترياقٌ لشفاء وانتصار العقل العربي)؛ والمجهولِ على نحوٍ أسوأ في عالمَ الغرب.
لِترجمات هذه الرواية بالذات قصصٌ وسياقاتٌ متنوِّعة: بعد صدورها بالعربية، قبل أكثر من 10 سنين، دعاني الناشر الفرنسي العزيز لوجبة غداء في مطعم جميل، للحديث عن مشروع ترجمتها. ثمّ أجّلَ موعدَ ترجمةِ الرواية ونشرِها، لأنه فضّل ربما، قبل ذلك، ترجمةَ ونشرَ رواية أصغر حجماً لي، كما أظن. كلّ شيء مرّ بمهنية عالية وبتفاعلات راقية مخلصة صادقة رفيعة. تُرجِمت هذه الرواية، في البدء، للكردية من دون أن أعرف، ونُشِرتْ أيضا. سعدتُ بذلك، وباركتُه، رغم أني لم أكن أعرف شيئاً عن ترجمتها وصدورها من قبل. إذ تُهمّني تسهيل قراءة الجميع، أوّلاً وأخيراً.
وآخر مشروع لِترجمتها للغةٍ أخرى، بدأ مؤخرا على نحو ممتعٍ فريد: بعث لي المترجم العزيز (الذي لا أعرفه شخصيّا، لكني أعرف ثقافته ومشروعه) إيميلا يقول لي: "حلمتُ بأن الشيطان يطلب مني كتابة عملٍ أدبيٍّ سيأخذُ مني حوالي عام. ما رأيك؟". قلت له: أفكار الشيطان الأدبية إبداعيةٌ دوماً! ماذا طلبَ منك؟.. ردّ: ترجمة تقرير الهدهد!
-----
حبيب عبد الرب سروري: كاتب وروائي يمني، من مواليد مدينة عدَن 15 أغسطس/آب 1956. وهو بروفيسور جامعي في علوم الكومبيوتر بقسم هندسة الرياضيات التطبيقية (كلية العلوم التطبيقية، روان، جامعة النورماندي، فرنسا)، منذ 1992. صدر له في الرواية: الملكة المغدورة، ودملان (ثلاثية روائية)، وطائر الخراب، وعرق الآلهة، وتقرير الهدهد، وأروى، وابنة سوسلوف – وصلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2014- وحفيد سندباد، ووحي التي نالت جائزة "كتارا" العام 2019. له أيضاً العديد من الكتب الفكرية كما كتب في القصة القصيرة والشعر. وله أعمال عديدة مترجمة إلى لغات أجنبية. "جزيرة المطففين" أحدث رواياته وصدرت مؤخراً عن منشورات المتوسط.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها